لا ذيب لي ....

تم نشره الأحد 07 آب / أغسطس 2022 10:57 مساءً
لا ذيب لي ....
الكاتب احمد خالد توفيق
المدينة نيوز :- فى طفولتي كنت شديد البدانة وأبدو أكبر من سنّي.. أذكر أنني كنت أركب الحافلة مع أمي وجاء المُحصّل ليأخذ ثمن التذاكر. هنا طلبت أمي تذكرة ونصفًا لأنني ما زلت طفلًا ..
راح المُحصّل ينظر لي من أعلى لأسفل كأنه يفحص ثورًا ينوى شراءه، ثم قال ضاحكًا بطريقة من عرف هذا الموقف مرارًا:
ـ” سيدتي .. لا يمكن أن يكون هذا طفلًا، إنه يحتاج إلى تذكرة كاملة "
بينما أصرّت أمي فى عناد:
ـ " بل هو طفل.. لابد أنك أصبت بالعمى فجأة! "
ارتفع صوت الرجل:
ـ" سيدتي.. هذا ثور كامل بلا زيادة أو نقصان .. إن وزنه هو وزني، وطوله قريب من طولي وأنت تريدين إقناعي بأنه كتكوت صغير !"
ثم صاح يطلب شهادة الركاب:
ـ" يا خلق الله يا مسلمون.. هل هذا طفل؟.. فليقل كل منكم ما يمليه ضميره ولا يجامل السيدة!.."
هكذا راح جميع الركاب يفحصونني بعيون ناقدة أو كارهة أو ساخرة.. ومنهم من راح يهز رأسه غير مصدّق.. وتعالت الصيحات:
-" كلنا أطفال!"
-"هذا طفل؟ .. هع هع !"
-" فلتعتبره طفل يا أخي.. نصف التذكرة هذا لن يفلس الحكومة.."
وأنا لا أصدق هذا الكابوس الذي أعيش فيه.. يشبه الأمر أن تقف عاريًا فى شارع مزدحم.. تمنّيت على أمي أن تدفع ثمن التذكرتين وتنهي هذا السيرك. سأدفع لك ثمن كل التذاكر الكاملة التي دفعتها لي طيلة حياتي بمجرّد أن أحصل على وظيفة ثابتة.
لكن أمي كانت مصرة على ألا تُخدَع.. وقد دفعني تمسّكها بالمبدأ هذا إلى أن أتلقى سيلًا من الشتائم على رأسي.. منذ ذلك الحين تعلّمت أنك يمكن أن تظل صامتًا وتقف في الظل محاولًا أن تحتل أقل حيز من الفراغ، وبرغم هذا ينهال عليك السباب..
‏‎فى إحدى الندوات التى تناقش أعمال رسام كاريكاتور شاب واعد، استضافوا فنان كاريكاتور عجوزًا ضيق الخلق. كان أول سؤال وجهه الحضور للرسام العجوز هو:
ـ‏‎" فى رأيك كم يمثّل هذا الفنان الشاب بالنسبة للكاريكاتور العربي؟ "
‏‎عرفت على الفور ما سيحدث ..
‏‎لقد انفجر الرجل صارخًا:
ـ‏‎" صفر فى المائة ! .. إنه لا يمثل سوى صفر في المائة !.. إنه لا شيء على الإطلاق "
‏‎والفنان الشاب الواعد يجلس محرجًا محمر الأذنين، فهو لم يفعل أي شيء ولم يدّع شيئًا، وفجأة وجد نفسه يُهان بلا داع .. إن هذا السؤال السخيف من الأسئلة التي تستجدي السباب استجداء..
أذكر أنني وجدت ذات مرة فى أحد مواقع الإنترنت من يمتدحني بحرارة، إلى درجة أنه يعتبرني من أهم الكُتّاب العرب، وأنه من المفترض أن يعرفني الغرب ليلقى الحمقى فى القمامة بما لديهم من كتب (هيمنجواي) و(كافكا) و(تولستوي) و(إميل زولا) و(جيمس جويس) و(هوميروس) و(سومرست موم) و(فلوبير)، ليضعوا كتبي مكانها..
طبعًا لم أشعر بأى سرور، أولًا لأن هذا الكلام يبعد عن الحقيقة بعدنا عن كوكبة القنطورس فى الفضاء الخارجى، ولأنني أعرف ما سيحدث بالضبط..
هكذا جلست فى الحافلة.. أعني جلست فى مكتبي صامتًا وأنا أقرأ الشتائم التى تنهال على رأسي على شبكة الإنترنت.. من هذا الكاتب الضحل؟.. من هذا التافه؟.. هذا الذي لا يعرف كيف يكتب جملة واحدة متماسكة.. إنه الأغبى والأكثر إملالًا والأكثر ضحالة وادّعاء..
تقريبًا دخل الموقع ألف شخص متحمّس ليكتب عبارات السباب فى شخصي الكريم ثم يرحل، لدرجة أنني توقّعت أن يقول أحدهم: هذا ثور كامل بلا زيادة ولا نقصان ..
حكيت هذه القصة لصديق لي، فالتمعت عيناه وراح يهتز بضحك مكتوم، ثم اعترف لي بأنه هو من كتب هذا المديح لي باسم مستعار..
ـ"لقد أردت أن أجاملك لكن النتيجة كانت عكسية تمامًا ..! "
هذا نموذج للشخص الذي يجلب على رأسك المشاكل بلا ذنب لك.
هكذا عرفت الطريقة المثلى كي تنهال الشتائم على خصومك.. امتدحهم بحرارة.. امتدحهم بعنف.. امتدحهم مع الكثير من المبالغة.. ثم استرخ فى مقعدك وراقب كيف يتم تمزيقهم إربًا ..
صدقوني .. قبل أن توجّهوا لي الشتائم تأكدوا أولًا من أنه لا ذنب لى فى هذا كله.. لقد ظللت صامتًا وابتعدت عن الحرب، لكن الحرب جاءت لي حيث أنا !
 


مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات