المشهد من براغ!

تم نشره الثلاثاء 06 أيلول / سبتمبر 2022 01:13 صباحاً
المشهد من براغ!
حسين شبكشي

تابعت معظم الوسائل الإخبارية العالمية التجمعات الكبيرة التي حدثت في قلب العاصمة التشيكية براغ منذ أيام قليلة وتحديداً في ساحة وينسيسلاس التاريخية، والتي قدر عدد المشاركين فيها بأكثر من 70 ألف شخص. وسبب الاهتمام بهذا الخبر هو أن هذه المظاهرات كانت الأكبر والأهم حتى الآن في مدن أوروبا الكبرى، التي خرجت للتعبير عن مخاوف الناس من ارتفاع تكلفة الطاقة بشكل لافت ومقلق، وخصوصاً أن فصل الشتاء الذي عادة ما يكون شديد البرودة اقترب وعلى الأبواب.
وانطلقت الكثير من التحليلات على ألسنة «خبراء» و«محللين» في الفضائيات الإخبارية العربية تصور المشهد في براغ بأنه نهاية للموقف الأوروبي الداعم لأوكرانيا، وأن هذا المشهد ما هو إلا انتصار للرئيس بوتين والموقف الروسي. وهذه القراءة لا تعي ولا تدرك الواقع التشيكي وتاريخ العلاقة المعقدة والمضطربة جداً مع روسيا بشقيها السوفياتي والفيدرالي، لأن ذكريات الشعب التشيكي مع الروس مؤلمة جداً وقاسية للغاية، فالاحتلال السوفياتي لبلادهم عقب التقسيم القسري للدول الأوروبية بين المعسكرين الشرقي والغربي في نهاية الحرب العالمية الثانية كان بمثابة الصدمة الحضارية العظمى، التي وأدت أحلام وطموحات التشيك الحالمين بالإبداع والحرية، وهم الشعب الذي انطلقت منه الحركة البوهيمية الإبداعية التي أخذت من اسم أكبر المقاطعات التشيكية «بوهيميا» اسماً لها، وبلغت هذه القسوة ذروتها في نهاية حقبة الستينات الميلادية من القرن الماضي عندما حصل التدخل العنيف من السوفيات بالدبابات على براغ لقمع المطالب بالاستقلال عن الهيمنة السوفياتية.
والتشيك هم جزء من الأمة السلافية التي ينتمي إليها كل من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وصربيا وكرواتيا وسلوفاكيا وبولندا، وبالتالي لم يكن غريباً أن تكون إحدى أكبر الدول الداعمة لأوكرانيا ضد الاجتياح الروسي عليها، وقدمت الملاذ الآمن لأكثر من 40 ألف أوكراني على أرضها، وسخّرت لهم المنازل والمدارس والمنظومة الصحية، بالإضافة إلى الدعم العسكري والإغاثي لحكومتهم.
وكانت مظاهر هذا التأييد العارم على الصعيدين الحكومي والشعبي بمبادرات رسمية وفردية على أكثر من صعيد وفي أكثر من مجال.
ومن المعروف أن الجمهورية التشيكية مثلها مثل غيرها من معظم الدول الأوروبية كانت تعتمد وبشكل رئيسي على احتياجاتها من الطاقة على استيراد الغاز الروسي، ومع تداعيات الأزمة بين روسيا وأوكرانيا كان الارتفاع القياسي لتكلفة الغاز الروسي على القارة الأوروبية بشكل عام، وهو الأمر الذي انعكس بشكل سلبي للغاية على معدلات التضخم التي وصلت لمستويات قياسية عُليا، وأدى ذلك إلى انكماش اقتصادي حاد في ألمانيا قلب الاقتصاد الأوروبي التي، تشكل وحدها أكثر من 24 في المائة من سوق التصدير التشيكية.
وعليه فمن المهم جداً التأمل في مشهد التجمعات التي حصلت في براغ والتعامل معها على أنها موقف شعبي من التداعيات الاقتصادية التي حصلت وتكلفتها الباهظة، وهي مشاهد من الوارد جداً تكرارها في عواصم أوروبية أخرى سيكون لها ثمن سياسي على ما يبدو.
ورغم كون الجمهورية التشيكية لا تعتمد على اليورو كعملة رسمية لها؛ لأنها من اليوم الأول اعتمدت على عملتها الوطنية الكرونة، فإن التداعيات السلبية العميقة في قيمة اليورو كان لها الأثر عليها وعلى اقتصادها كسائر دول القارة، مع ضرورة الملاحظة أن البنك المركزي التشيكي يعتبر من أنجح البنوك المركزية الأوروبية في حفاظه على سياسة نقدية متوازنة.
القارة الأوروبية اختارت قراراتها بإنهاء الاعتماد على الغاز الروسي، وحصلت تحولات في غاية الأهمية في مشاهد الطاقة في أوروبا، وأصبحت النرويج اليوم هي المورد الأول للدول الأوروبية، وعادت المحطات النووية للعمل مجدداً في أكثر من دولة أوروبية لإنتاج الطاقة بعد توقيفها عن العمل منذ فترة غير بسيطة من الزمن، كما عادت مناجم الفحم للعمل مجدداً كمصدر لإنتاج الطاقة.
ورمزية ما يحدث في الجمهورية التشيكية مسألة في غاية الأهمية؛ لكونها الدولة التي ترأس حالياً مجلس الاتحاد الأوروبي.
هناك تكلفة اقتصادية كبيرة هذا الشتاء ستتحملها الاقتصادات الأوروبية رغم تزايد الألم الشعبي الواضح، ولكن أوروبا التي عانت من مرارة ومآسي حربين عالميتين في قلب حدودها لديها كل الأسباب للقلق والخوف من حرب روسيا على أوكرانيا وتداعيات تلك المسائل عليها، وهذا قد يفسر المواقف التي اتخذتها حكوماتها.
ولعل التعليق المختلف ولكنه البليغ في آن هو ما قدمه أحد المعلقين الإخباريين التشيكيين معلّقاً على الأحداث الأخيرة في بلاده، فقال مستشهداً بمقولة للكاتب التشيكي الأشهر فرانز كافكا: «ابدأ بما هو صحيح بدلاً بما هو مقبول».

الشرق الاوسط



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات