ثقافة لا تطعم خبزا

تم نشره الأربعاء 21st أيلول / سبتمبر 2022 01:35 صباحاً
ثقافة لا تطعم خبزا
موسى إبراهيم أبو رياش

تحتل الاحتياجات الفسيولوجية قاعدة هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية، الذي يقسم إلى خمسة مستويات متصاعدة، والاحتياجات الفسيولوجية أو الحياتية أو الأساسية، هي ما يتساوى فيها الإنسان مع الحيوان، أي ضرورات الحياة التي لا بد منها، ويفترض أن تكون تحصيل حاصل، وفي مقدور أي كائن حي يعيش على هذه الأرض، وأي نقص فيها يعني أن ثمة خطأ أو خلل أو ظلم، وهذه الاحتياجات الفسيولوجية هي: (التنفس والغذاء والماء والنوم والمسكن والملبس والصحة) لكن الواقع يؤكد أن كثيرا من الناس لا يتحصلون هذه الاحتياجات بشكل كافٍ يمكنهم من العيش الكريم. والمفارقة المرة أن الحيوانات التي يرعاها الإنسان في بيته تتوفر لها هذه الاحتياجات، بينما مالكها يعاني الحرمان؛ فقد تجد إنسانا يربي عنزتين، ويوفر لهما كل احتياجاتهما، بينما قد يعاني هو من نقص في الطعام وعدم قدرة على الزواج وصعوبات في النوم، وربما يعاني من بعض الأمراض أيضا، ويعيش في خيمة أو خرابة.
تدرج الثقافة في المستويين الرابع والخامس (الحاجة للتقدير وتحقيق الذات) أي في مرحلة متقدمة جدا، وإذا علمنا أن السواد الأعظم من الناس لا يتجاوزون المستوى الثالث وهو المتمثل بالعلاقات الاجتماعية والأسرية، ندرك أن الثقافة بالنسبة لمعظم الناس رفاهية لا تتطلع إليها نفوسهم، ولا تهفو لها أرواحهم، ليس لأنهم لا يحبون الثقافة والأدب والفنون، لكن مطحنة الحياة تسحقهم، ولا تسمح لهم مجرد التفكير بالثقافة ومتابعة نشاطاتها وحضورها والقراءة عنها، وهل يعقل أن يفكر محروم من ضرورات الحياة بالثقافة، وكل همه أن يطارد رغيف الخبز، ولا يصطاده -إن نجح- إلا بشق الأنفس؟
إننا نظلم الناس عندما نلومهم لأنهم لا يهتمون بالثقافة وفعالياتها، فهم يستحقون الشفقة والعطف لا التعنيف وسوء الظن، وكيف يمكن أن يوفق أحدهم بالاستماع إلى أمسية شعرية، وهو يتقلى على جمر الحرمان، ويحلم بوجبة ساخنة مشبعة قبل أن ينام، أو على الأقل ينام وهو مطئن أن أولادة أكلوا حاجتهم من الطعام ولم يناموا على الطوى. وليست الثقافة وحدها من يدير لها معظم الناس ظهورهم، بل السياسة وأحزابها وصراعاتها، والأحداث العالمية، وأسواق المال، وعالم الصحافة والإعلام، وغير ذلك مما لا يلامس حياتهم مباشرة، وهذا موقف متوقع، فما دامت الاحتياجات الأساسية لهم كمواطنين غير متوفرة، وهي التي تشكل الأساس والحد الأدنى للحياة، فإن الانشغال بما عداها لا يصدر عن حكمة أو عقلانية، ومن يفعل فإنما على حساب أولوياته ولقمة عيشه.

وبالتالي، فإنه مهما بذلت الهيئات الثقافية من جهود لتوسيع نطاق نشاطها وزيادة جمهورها، فلن تنجح إلا بنسبة ضئيلة جدًا لا تحدث فارقا؛ كون الشرائح المستهدفة لا تشكل لها الثقافة ومن لف لفها أولوية أو ضرورة، بل تعتبر انشغالها بالثقافة ضربا من العبث والحمق. ومن هنا فإن الثقافة التي تلامس أوجاع هؤلاء وتضرب على أوتارهم الحساسة هي التي تنجح في شد انتباههم والتفاتهم، وهذا يفسر شيوع الفنون الشعبية عند هذه الفئات؛ لأنها تنقل أوجاعهم وتترجم أحاسيسهم وتخاطبهم بلغتهم وتخفف عنهم ولو من باب التخدير والتنفيس.
لا يعني ما سبق التقليل من قيمة الثقافة وأهميتها ودورها في الحياة، لكن يجب أن نعي أن دور الثقافة محدود في ظل عدم توفر الاحتياجات الأساسية للحياة، وأن تأثيرها غير ملموس، وهو هامشي إلى حد ما، ويجب أن لا نأخذ بأنفسنا مقلبا، أننا سدنة التغيير والوعي، فالحياة تسير دون ثقافة وأدب، وحتى يكون المثقفون مؤثرين، فيجب أن ينزلوا من بروجهم العاجية وقصورهم الوهمية، وينخرطوا مع الناس دون تعالٍ أو نرجسية أو فوقية، ولتكن كتاباتهم وفنونهم أوجاع الناس وآلامهم وأحلامهم ومعاناتهم، بحيث يجد هؤلاء المسحوقين أنفسهم في هذه الكتابات والفنون والنشاطات، تعكس صورتهم الحقيقية دون رتوش.
التواضع وحسن التقدير مطلوب من قبل المثقفين والهيئات الثقافية، وأن رغيف خبز للجائع خير من ألف قصيدة عصماء، وحتى الطبقات الغنية التي تستطيع شراء كل شيء، فهي غير معنية بالثقافة، إلا من باب (البرستيج) والمظهر الاجتماعي، بل هذه الطبقات تنظر للمثقف على أنه مشرد أو ضائع أو تائه، يتاجر ببضاعة كاسدة لا سوق لها، وهم بالطبع خبراء في الأسواق والتجارة وخير من يقيم الناس على هذا الأساس.
ولا بد من الإشارة إلى أن معظم الهيئات الثقافية الرسمية والأهلية غير معنية بالثقافة وتفاعل الناس معها، فهي واجهات ديكورية من لوازم الوجاهة والمظاهر والشهرة، ونشاطاتها قائمة على جمهور محدود شبه ثابت، يتبادلون الأدوار بين المشاركة والحضور، أي أنهم في الحقيقة إنما يخضون الماء! وهذا لا ينفي وجود هيئات مخلصة صادقة تعمل جهدها لتقديم الأفضل وشق طريقها في صخر اللامبالاة والعبث والظروف القاسية، لكن سرعان ما يخبو حماسها وتضعف قواها، وتستسلم للأمر الواقع، وتتحول إلى مجرد رقم لا وزن له في الساحة الثقافية.
لا أمل قريب في نهضة ثقافية وتفاعل شعبي معها ما دامت الظروف المعيشية طاحنة، والحريات مقننة، والقيود متزايدة، واختلال القيم والموازين هو السائد، وسدنة الثقافة لا تهمهم الثقافة إلا إن كانت فيها مصلحة شخصية لهم.

القدس العربي



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات