وصايا الشاب حسني!

تم نشره الأحد 25 أيلول / سبتمبر 2022 12:58 صباحاً
وصايا الشاب حسني!
سعيد خطيبي

سبتمبر/أيلول كان شهراً للجنائز وحمل النعوش على الأكتاف. شهراً رحل فيه كبار المغنين… الشاب عزيز، بلقاسم بوثلجة، رشيد طه… وكذلك الشاب حسني. قرابة الثلاثة عقود تمرّ على رحيل هذا المغني مع ذلك فإن طيفه يزداد وضوحاً. بات حاضراً في الغياب أكثر مما كان عليه في الحياة.
قبل 29 سبتمبر 1994، لم يكن حسني شقرون (اسمه الكامل) أكثر من مغنٍ، لكن غداة ذلك التاريخ، بعدما اخترقت بدنه رصاصتان، قبالة بيته في وهران، صار نوراً تهتدي به أجيال متعاقبة من الجزائريين. كان فرداً فصار متعدداً، وتوزعت روحه بين أرجاء البلاد. أضحى مرادفاً للحب والإخلاص ونقيضاً للفناء. فحسني لا يُذكر اسمه سوى في صيغة الحاضر، لا الماضي، لا يتكلم عنه الناس سوى بوصفه راهناً لا غياباً، من كثرة تداول صوته وصورته، نشعر كما لو أنه قد قام من قبره كي يخفف عنا مشقة العيش. لم يستمر حسني في الغناء طويلاً، لم يتعد مشواره أكثر من سبع سنوات، مع ذلك فقد تحولت تلك السنوات السبع دهراً. لم يكن فناناً مكتملاً، لم يكن عازفاً ولا كاتب كلمات، بل جاء إلى الغناء من باب الهواة، من باب الصدفة أيضاً، فصار نجم البلاد الأول بين أوسط الشباب. لا شيء كان يوحي ـ في البداية ـ بأنه سينجح في مسعاه، لكن حصل العكس، فقد تظافرت عناصر، قليلاً ما ننتبه إليها، في إيصاله إلى المقام الذي تبوأه في نفوس الناس.

المحلية ضد العالمية

زار الشهر الماضي إيمانويل ماكرون وهران، وقضى لحظات مبتسماً سعيداً في محل «ديسكو مغراب» للأشرطة السمعية، بل صوّر فيديو هناك والتقط صورة له. تلك الصورة لم تكن عفوية، فرئيس فرنسا لا يتلقط صورة دون مشورة مستشاريه، ودون علم منه بتداعياتها. لقد التقط صورة له حاملاً بين يده شريطاً للشاب حسني. من المؤكد أن ماكرون لا يفهم شيئاً مما غناه حسني، كما من المحتمل أن موسيقاه لن تروقه، بحكم أن هذا المغني راهن، طوال مسيرته، على إيقاعات محلية، وأدار ظهره لكل مما شأنه أن يقربه من مستمع غير محلي. مع ذلك فإن خطوة الرئيس الفرنسي لم يكن الغرض منها سوى استمالة الجزائريين، رسالة منه بأنه يشاركهم حب رجل، على الرغم من أنه لم يستمع إليه ولن يفهم شيئاً إن جرب أن يفعل ذلك. هكذا هو حسني بدأ مغنياً محلياً وانتهى محلياً، فواحد من عيوبه ـ كما ذكر منتقدوه قبل ثلاثين عاماً ـ صار نقطة قوة له. فحسني اهتم بالكلمات لا بالتلحين، بل إن الكثير من أغانيه الشهيرة اقتبس (أو انتحل) ألحانها من فنانين آخرين، اقتبس من خوليو، داليدا، وردة، عمار الشريعي، عبد الحليم حافظ، جورج وسوف وغيرهم. ويرجع السبب في ذلك إلى إسرافه في إصدار الألبومات، كما لو أنه شعر بالموت يتربص به. كان يراكم التسجيلات كما لم يفعل آخر من قبله، فقد بلغ رقماً قياسياً في الإصدارات، وصل في إحدى المرات إلى 15 ألبوماً في سنة واحدة (1991).

كما سجل رقماً قياسياً آخر لم يصل إليه مغنٍ آخر من قبله أو بعده، حيث إن حسني سجّل أعماله مع أكثر من 20 شركة إنتاج مختلفة، نذكر من بينها: ديسكو مغراب، سانكريبان، أورو ميوزيك، زاد الأيام، كوك دور وغيرها، بحيث يصعب أن نحصر اسمه مع شركة إنتاج واحدة، كما يحصل مع مغنين آخرين. لقد عاش متنقلاً من استديو تسجيل إلى آخر، مصراً على أسلوب فني واحد، ومخاطباً جمهوراً واحداً، ولم يسبق له أن غامر خلف الحدود، على غرار مجايليه. لم يسجل في باريس أو بروكسل، بل ظلت أرضه وهران. لم يكن له حفل في الخارج وحده (بل دائماً برفقة مغنين آخرين) لأن جمهوره في الداخل لا في الخارج. هذا ما زاده قرباً من الناس، وزادهم تعلقاً به. كما أنه لم يظهر في فيديوهات كليب، في سيارات فاخرة أو في فيلات أثرياء، كما فعل خالد أو مامي، بل ظل وفياً للفقر الذي جاء منه. في وقت من الأوقات سادت مقارنة بينه وبين الشاب خالد، بوصفهما أهم اسمين في موسيقى الراي. بينما الأول تبنى في بداية التسعينيات حياة فرنسية بالكامل، ظل الثاني مستمسكاً بروحه المحلية، ما جعله نجم المحرومين والصعاليك والمعوزين وشباب الأحياء البسيطة، فحسني لم يكن يظهر سوى في ملابس عادية، لا فخامة ولا تصنع، لم يسبق له أن غنى بغير لغته العامية، ولم يخاطب مستمعاً من خارج حدوده الجغرافية. هذه الأسباب غفرت له سقطاته في التلحين، ورفعت من أسهمه في عيون جمهوره، لكن العنصر الآخر الأكثر أهمية أنه اتخذ من الحب والقصص العاطفية مادة له. صوته الساخن وذاكرته المعذبة متنت صلته العضوية بمحيطه، في وقت كان فيه الحب محرماً، وكان التطرف لغة مهيمنة في شوارع البلاد.

طال غيابك

خرج حسني إلى الحياة في العام الخطأ (1968) في زمن احتد فيه الصراع من أجل السلطة في البلاد، وشاعت فيه الأيديولوجيا الواحدة، وأخمدت فيه أصوات الاحتجاج، بما في ذلك الاحتجاج الفني، لكنه بدأ الغناء في الوقت المناسب، في عام تهاوت فيه أسعار برميل البترول فدخلت البلاد حالة تقشف للمرة الأولى (1987) فجاء صوته مهللاً بأن الحياة يمكن أن تعاش في الهامش أيضاً. بدأ من أغنية فسرها البعض أنها إباحية عن عاشقين يمارسان طقوسهما في كوخ، وانتهى هو نفسه عاشقاً يعدد مغامراته وخساراته مع النساء. كان يجب أن يظهر حسني في ذلك الزمن الرمادي من التاريخ الجزائري لا في زمن آخر، أن يحمل على عاتقه قصصاً حالمة وأخرى مؤلمة عن الحب بأفراحه ومآسيها، فيُخرج الناس من محنهم أو ينسيهم همومهم، ويفتح نوافذ الحلم، في بداية التسعينيات بينما البلاد تتأرجح بين أخبار الموت والتفجيرات والاغتيالات والخطابات المتطرفة. جاء مثل نبي يعد الناس جنة الحب إن هم أصغوا إلى أغانيه، أقنعهم برسالته فصار له مريدون، أكبروا فيه بساطة اللسان، لا يتكلف ولا يبحث عن صورة النجم، بل ظل «ابن الحي، ولد الحومة» كما نقول، يستعطف حبيبته في أغنية «طال غيابك يا غزالي» يتغنى بابنه عبد الله وزوجته الغائبة على الدوام، جعل من الحب طوق نجاة من يوميات الرصاص. كانت المجاهرة بالحب فضيحة فصيرها شرعاً مباحاً. حرر اللسان من قبضة المسكوت عنه. وجرف الطوفان بلادا بأكملها واستمر عشر سنوات عجاف كما جرف معه حسني، الذي واجه العبث فصار من ضحاياه، لكن صوته لم يخمد، بل زاد تشبعاً بالحضور، ففي كل سبتمبر نتذكر هذا المغني الذي عاش وهو يوزع صكوك الأمل ويوصي الناس من بعده بالتحرر من كبتهم، بالعشق والحلم وعدم الاستسلام.

القدس العربي 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات