سيميائية الحجاب في الفضاءات السياسية

تم نشره الخميس 12 كانون الثّاني / يناير 2023 12:57 صباحاً
سيميائية الحجاب في الفضاءات السياسية
محمد جميح

في سياق الاحتجاجات التي تشهدها إيران ضد النظام تم التطرق للحجاب في وظيفته الدينية والفقهية ودلالاته المعجمية من جهة، وفي رمزيته السياسية والأيديولوجية وإيحاءاته السيميائية من جهة أخرى، وذلك مع بروزه عنصراً أساسياً في حركة الاحتجاج التي ـ وإن كان الحجاب مفجرها الظاهري ـ كانت المطالبة بالحقوق والحريات هي السبب الجوهري وراءها.
تم النظر للحجاب بمعناه القاموسي الديني والذي يشير إلى القماشة التي تغطي رأس المرأة، كما تمت الإشارة إلى الحجاب في إشاراته السيميائية، عندما أصبح رمزاً ينفتح على دلالات متعلقة بالنظام القمعي وسلطاته الأمنية، ممثلة في «شرطة الأخلاق» التي تُتهم بقتل الشابة مهسا أميني التي اعتقلت في سبتمبر الماضي بسبب خصلات من شعرها خرجت من حجابها.
وعلى قدر ما للحجاب/المفردة اللغوية من دلالات فقهية-دينية محددة فإن للحجاب/العلامة السيميائية دلالاته الأيديولوجية-السياسية الواسعة، وإذا كان الهدف من الحجاب بمعناه الديني واحداً لدى مختلف المذاهب والأديان فإن الحجاب بإحالاته السيميائية يأخذ أشكالاً وألواناً وطُرُزاً مختلفة، حسبما يتضمنه من إشارات أيديولوجية وتاريخية، حيث يحمل ـ مثلاً ـ إحالات متعددة مرتبطة بالأفكار والأحداث التي صبغت هذا الحجاب باللون الأسود الذي يعكس «حزن المرأة» تحديداً على قتلى الحروب، كما يعكس ارتباط الحرب بما يصاحبها من عمليات «سبي النساء» التي تَصِم القبيلة بالعار وتجلل تاريخها بالسواد، ناهيك عن ارتباط لون حجاب المرأة بأحداث كربلاء المأساوية، الأمر الذي يفسر غلبة السواد على لون حجاب المرأة في بعض بلدان المنطقة.
وإذا كان الحجاب مؤشراً على التمسك بالقيم الإسلامية كما عند قطاعات شعبية ودينية واسعة، فإنه غدا كذلك رمزاً للتخلف وتقييد المرأة، لدى بعض النخب التي ترى ضرورة مغادرة كل ما يمت إلى الماضي بصلة من أجل تجاوز مراحل التخلف التي تعيشها الشعوب العربية والإسلامية، وقد أضفى ذلك على الحجاب أبعاداً فكرية وسياسية وأيديولوجية تضاف إلى أبعاده الدينية.
وإذا عدنا للوراء نجد أنه منذ بدايات القرن الماضي اندلعت سجالات واسعة في بعض البلدان العربية بين مدرستين: مدرسة الأصالة التي ترى ضرورة العودة للجذور شرطاً من شروط انبعاث الأمة مجدداً، وتقابلها مدرسة المعاصرة أو التغريب التي ترى غالباً أن القطيعة مع الماضي والأخذ عن الحضارة الغربية هي شرط الانبعاث العربي والإسلامي، وقد كان الحجاب جوهر تلك المعارك الشرسة التي اندلعت بين هاتين المدرستين، حيث لم يعد مجرد قماشة منكفئة على معناها القاموسي الفقهي، بل تخطى ذلك التوصيف إلى دلالات أيديولوجية وسياسية أوسع، وهي الدلالات التي أخذت مساراتِها الرمزية المتعددة متأثرةً بالمعارك التي اندلعت بين المدرستين المذكورتين.

وأثناء معارك قاسم أمين والطاهر الحداد ـ مثلاً ـ حمل الحجاب إيحاءات غير التي حملها قبل تلك المعارك، حيث إن دلالات الحجاب لدى دعاة «تحرير المرأة» في مطلع القرن الماضي كانت تنفتح على إحالات «حجب» المرأة عن أدوارها الحياتية، أي على «حجب المرأة كإنسان» لا مجرد «تغطية الشعر كعورة»، مع تحول الحجاب إلى سلاح في معارك فكرية تعدت وضعية المرأة العربية المسلمة في المجتمع إلى ما هو أبعد ضمن سياقات الصراع الفكري والسياسي بين معسكري الأصالة والتغريب في مطلع «عصر النهضة» في المشرق العربي.
وخارج البلاد العربية كانت مثل تلك الدلات الأيديولوجية والسياسية تتجاوب في تركيا الأتاتوركية التي تحول فيها الحجاب المحظور إلى رمز أيديولوجي أرادت تركيا من خلال محاربته أن تؤشر إلى انسلاخها عن تركتها الإسلامية في نسختها العثمانية التي سعت تركيا الحديثة إلى التخلص من كل متعلقاتها، بما في ذلك الحجاب الذي نُظر إليه كذلك على اعتبار أنه «ثيمة ثقافية بدوية» لا تناسب الشعوب المتحضرة، كما بدا أن تركيا الأتاتوركية كانت تنظر للحجاب على اعتبار أبعاده القومية العربية، مع ما كان للعرب من صورة سلبية في المخيال الأتاتوركي، لأسباب ليس هذا مجال ذكرها.
وبعد أن تولى حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الإسلامية السلطة ألغت الحكومة التركية الحظر الذي فرض على ارتداء الحجاب لعقود طويلة، وعادت مرة أخرى معارك ذات طابع سياسي وأيديولوجي حول الحجاب، بين الحزب الحاكم ذي الخلفية الدينية الإسلامية وحزب الشعب الجمهوري ذي الخلفية العلمانية الأتاتوركية الذي يتهم حزب العدالة والتنمية بمحاولات «أسلمة» تركيا، فيما يذهب الحزب الحاكم إلى أنه فعل ما كان ينبغي أن يُفعل منذ عقود طويلة، وهو رفع الحظر عن الحجاب من جهة وعدم فرض إلزاميته من جهة أخرى، لتظل المسألة اختياراً شخصياً للمرأة، دون إكراه، وهي السياسة التي حفزت قطاعات واسعة من التركيات على ارتداء الحجاب بمجرد رفع الحظر الذي كان مفروضاً عليه، الأمر الذي زاد من حدة الخطاب المعارض للحجاب، وخاصة داخل الجامعات التركية وأماكن العمل، وهو ما يضع علامات استفهام كثيرة حول حقيقة دعوى معارضي الحجاب الذين يستندون في معارضتهم إلى فرضية أن الحجاب يعد تمييزاً ضد المرأة وحرماناً لها من المشاركة المجتمعية، في وقت يحاولون فيه الضغط، للحد من حرية ارتداء الحجاب في الجامعات وأسواق العمل، وهو ما يثير الكثير من الشكوك حول صحة ربطهم الحجاب باضطهاد المرأة وتقييد حريتها.
وهنا، تذهب المعركة حول الحجاب إلى ما هو أبعد من مجرد دلالات الحجاب الفقهية والدينية، لتنفتح على حقول خصبة من الدلالات والمرموزات والإيحاءات التي يختلط فيها السياسي بالثقافي والأيديولوجي، والتي أخرجت الحجاب عن كونه مجرد مسألة فقهية دينية إلى أفق أوسع من الصراع بين المدرستين المذكورتين اللتين لا تزالان تصطرعان ليس في تركيا وحسب، ولكن في أكثر من بلد عربي وإسلامي.
باختصار يمكن القول إن التجربة التركية رفعت القيود التي كانت مفروضة على ارتداء المرأة للحجاب، وتركته ضمن الاختيارات الشخصية للمرأة، مع تشجيع ملحوظ على الالتزام به دون إكراه، وهو ما أسفر عن إقبال طوعي على ارتدائه، بينما فرضت التجربة الإيرانية الحجاب وبمواصفات خاصة على المرأة الإيرانية التي كانت أساساً ممنوعة من ارتدائه، وعندما تم الانتقال من منع الحجاب إلى فرضه بهذا الشكل الحدي، مع التقلبات السياسية في البلاد أصبح الحجاب محشوراً ضمن سياقات سياسية أخرجته عن ارتباطاته الدينية وجعلت الإيرانيين ينظرون إليه على أساس أنه المبرر الذي بموجبه يقمع النظام حريات الإيرانيين بشكل عام، وهو ما يفسر خروج محجبات للتظاهر، في إشارة إلى معارضتهن للقمع الأمني الذي يرمز له ما بات يعرف بـ «حجاب النظام» في إيران.

القدس العربي



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات