حروب الأوروبيين في عيون الأفارقة

تم نشره الأحد 15 كانون الثّاني / يناير 2023 12:46 صباحاً
حروب الأوروبيين في عيون الأفارقة
مالك التريكي

قبل سنوات سألني أستاذ دنماركي، أثناء ندوة في كلية إدارة الأعمال في جامعة كوبنهاغن، ألا ترى أن قناة الجزيرة نجحت في نشر سردية عربية تتحدى السرديات التي سادت واستحكمت عالميا بسبب عقود طويلة من الاحتكار الغربي للمجال الإعلامي؟
أجبت بأني وددت أن يكون الأمر كما وصف، ولكنه ليس كذلك إلا بمقدار: صحيح أنه صار في إمكان الجمهور من مختلف الأمم والقارات، منذ انطلاق قناة الجزيرة الإنكليزية، الاطلاع على وجهات نظر أخرى غير وجهات النظر الغربية، خصوصا في ما يتعلق بقضية التحرر الوطني الفلسطيني من الاحتلال الكولونيالي الصهيوني. لكن رأيي أن المعوّل في مجال التأثير في الرأي العام العالمي ليس على الإعلام بل إن المعوّل على الإبداع، لأن دور الإعلام في نشر السرديات القومية أو الحضارية المخصوصة نشرا واسعا إنما هو دور محدود. أما السينما، فإن تأثيرها العالمي أو العولمي أقوى وأجلى. إذ إن سيطرة أمريكا (سابقا، وربما حاضرا) على المخيال البشري عموما هي من فعل السينما، لا الإعلام. وأثر نيويورك تايمز وسي ان ان، مثلا، عارض محدود قياسا إلى الأثر الأسطوري أو السحري لهوليوود.
لهذا كله اهتممت منذ أن سمعت، قبل أكثر من عام، أن المخرج الفرنسي ماتيو فاديوبياد يعمل مع الممثل السنغالي الفرنسي المعروف عمر سي على إنجاز فيلم، بعنوان «الرماة»، يتناول مسألة تجنيد حوالي 200 ألف من أبناء إفريقيا الغربية وإجبارهم على القتال في صفوف الجيش الفرنسي أثناء الحرب العالمية الأولى. يروي الفيلم، الذي بدأ عرضه في قاعات السينما في فرنسا منذ الرابع من هذا الشهر، قصة قرية سنغالية يعيش أهلها من رعي الأغنام تحولها سلطات الاحتلال الفرنسي معسكرا لتجنيد الشباب من أهل البلاد. يأخذ الفرنسيون الشاب تيارنو عنوة فلا يجد والده باكاري حيلة سوى أن يعرض عليهم أن يأخذوه معه.

ذلك أن خوف الأب على الابن من مصرع شبه محقق يدفعه إلى التطوع حتى يكون فلذة كبده تحت نظره عساه يفلح في أن يحميه أو ينجيه، وسيان عند الأب إن كلفه ذلك حياته. لكن مصيري الوالد الذي لا يتكلم الفرنسية والولد الذي يتكلمها يفترقان لأن الملازم الفرنسي شامبرو يتخذ تيارنو صديقا فتنشأ بينهما تلك الأخوّة التي توحد رفاق السلاح.
ولقد غدر بالمجندين الأفارقة في الحرب العالمية الأولى. فلطالما وعدوا بنيل الجنسية الفرنسية بعد الحرب… وتكرر الأمر في الحرب العالمية الثانية. بل إن قدامى المحاربين السنغاليين طالبوا عند عودتهم لبلادهم، في ديسمبر 1944، بنيل رواتبهم على غرار زملائهم الفرنسيين. فبماذا رد ضباط الاحتلال على هؤلاء الرجال العزّل؟ أطلقوا النار عليهم في ثكنة بداكار فأردوا منهم أربعمائة!!!
ومعروف أن المخرج رشيد بوشارب روى في فيلم «الأهليون»، عام 2006، قصة عدد من مجندي المغرب العربي الذين كان لهم دور فعال في معركة تحرير فرنسا من الاحتلال النازي عام 1944، فكانت تلك أول مرة يفيق فيها الجمهور الفرنسي الواسع على حقيقة أن التاريخ الذي تعلموه في المدارس وتعودوه في الإعلام تاريخ مبتور لأنه حذف منه كل ما يدحض أسطورة المجد القومي الذي لا يدين للأمم الأخرى، سواء الغربية (أمريكا وبريطانيا) أو الإفريقية، بأي دين. وقد عبّر عمر سي، بطل فيلم الرماة، عن هذه المفارقة بالقول: «إن التاريخ يجمعنا ولكن الذاكرة تفرقنا (..) ليس الهدف من الفيلم إشعار عموم الفرنسيين بالذنب، بل إطلاعهم على ما لا يعرفون من الحقائق وتأكيد شعور الأفارقة بالفخر لأهمية دورهم في صنع تاريخهم وتاريخ غيرهم».
وقد سبق لي أن أنجزت شريطا وثائقيا عن الوجه العربي من هذه المسألة، أي تجنيد أبناء المغرب العربي للقتال في صفوف الجيش الفرنسي وأبناء مصر للقتال في صفوف الجيش البريطاني وأبناء العراق وبلاد الشام للقتال في صفوف الجيش العثماني، في سلسلة تلفزيونية من ثلاث حلقات بعنوان «الحرب العالمية الأولى في عيون العرب». ومع أن الوثائقي حظي بمشاهدة الملايين في نسختيه العربية والإنكليزية، إلا أن الذي لا مراء فيه أن الأثر سيكون أقوى، وربما أبقى، لو أن مخرجا سينمائيا قرر في المستقبل أن يروي هذه السردية العربية للجمهور العالمي بكل ما يتيحه فن السينما من إمكانات التأثير الإبداعي في المخيال الإنساني العابر للثقافات.

القدس العربي



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات