إنها حرب اقتصادية عالمية وليست مجرد عقوبات على روسيا

تم نشره الأربعاء 01st آذار / مارس 2023 12:32 صباحاً
إنها حرب اقتصادية عالمية وليست مجرد عقوبات على روسيا
إبراهيم نوار

قد تكون حرب أوكرانيا بالمفهوم العسكري الضيق جدا مجرد صراع عسكري ثنائي على طول الحدود بين روسيا وأوكرانيا، تشارك فيها بشكل غير مباشر دول حلف الأطلنطي بالسلاح والمال والدعم الدبلوماسي لأوكرانيا. لكنها بالمفهوم الجيوستراتيجي تمثل حربا بالوكالة، يستخدم فيها حلف الأطلنطي أوكرانيا لتحقيق مصلحة استراتيجية ضد روسيا في إطار سياسة التوسع شرقا. كذلك فإنه من الصعب وصفها بأنها «حرب إقليمية أوروبية»؛ فالدول الملاصقة لأوكرانيا مثل بيلاروسيا، وهي حليفة لروسيا، أو بولندا وهي عضو في حلف الأطلنطي، ما تزال حريصة على عدم التورط عسكريا بشكل مباشر. غير أن الإفراط في الدعم العسكري لأوكرانيا، من جانب دول حلف الأطلنطي، يمكن أن يحولها بسهولة إلى حرب إقليمية أوروبية، وإذا حدث ذلك فلن يستطيع أحد تحديد الخط الفاصل، بين حرب إقليمية أوروبية، وحرب عالمية ثالثة. ونعرف جميعا أن الحربين العالميتين الأولى والثانية بدأت كل منها بنزاعات إقليمية في أوروبا. الحروب الثنائية تقع بين دولتين، والإقليمية تقع بين أكثر من دولتين في إقليم واحد، أما الحرب العالمية فإنها تقع بين أكثر من دولتين، في أكثر من إقليم من أقاليم العالم.

الحروب الاقتصادية

الحروب الاقتصادية قد تكون ثنائية، مثل نزاعات إدارة الحدود وتنظيم الهجرة على الحدود الأمريكية – المكسيكية، أو ما نراه حاليا من نزاعات اقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، وقد تكون إقليمية مثل النزاعات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، منذ خروج الأولى من الاتحاد، وتشمل كيفية إدارة الحدود القتصادية المشتركة بين بريطانيا وجمهورية أيرلندا، وكيفية التصدي لمشكلات الهجرة عبر البحر من فرنسا. وقد تكتسب الحروب الاقتصادية طابعا عالميا، لكن تقتصر على قطاع اقتصادي واحد، مثل حروب النفط أو الغاز أو الصلب أو المنسوجات أو الرقائق الإلكترونية. أو في غير ذلك، وإذا كانت الحروب الاقتصادية تشمل، في وقت واحد، أكثر من دولة، في أكثر من إقليم، وأكثر من قطاع اقتصادي، فإن العالم يكون في «حرب اقتصادية شاملة». ولأن الاقتصاد هو خبز العالم، فإن حربا اقتصادية عالمية من السهل جدا أن تتحول إلى حرب مسلحة، وسط فوضى مدمرة. لا تستهينوا بما يحدث الآن؛ فالعالم قد يكون في طريقة، معصوب العينين، إلى حرب عالمية ثالثة، ما لم يتغلب صوت العقل على حماقة التهور.

العقوبات منظومة عالمية دائمة

الحزمة الأخيرة من العقوبات على روسيا، التي أعلنها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا، في الذكرى الأولى للحرب الأوكرانية، تخلق من حيث المحتوى، والآليات، وطريقة التقديم «حربا اقتصادية عالمية»، تقسم العالم إلى معسكرين، على جانبي الحرب الأوكرانية، إما مع الولايات المتحدة، وإما مع روسيا. وتنطوي حزمة العقوبات على انتهاك النظام الدولي. ونظرا لأنها صدرت خارج الأمم المتحدة، فإنها تمثل محاولة لتقويض النظام العالمي المتعدد الأطراف، وتنصيب الولايات المتحدة لتتولي مسؤوليات متعددة، ينص فقه القانون والتشريع على فصلها، فهي تتولى سلطة رجل البوليس الذي يعمل في أي منطقة في العالم من تلقاء نفسه، كما تتولى سلطة المدعي العام الذي يدعي على الآخرين بارتكاب جرائم حرب مثلا، وتتولى أيضا سلطة القضاء والفصل في المنازعات، وتصدر الأحكام غير القابلة للطعن عليها. الولايات المتحدة استخدمت أيضا حزمة العقوبات الأخيرة لتوجيه اتهام غامض إلى الصين بأنها ربما تسعى لتزويد روسيا بالسلاح، ولم تقل إنها فعلت. المقصود من توجيه الاتهام والتحذير، هو سعي واشنطن لإعلاء سلطتها على السلطة السيادية للدولة الصينية، وأن تجبرها على إصدار بيان تنفي فيه التهمة، وتؤكد التزامها بتنفيذ العقوبات. وهذا شكل من أشكال الخضوع للهيمنة الأمريكية. الولايات المتحدة تهدد الدول التي لا علاقة لها بالحرب، بأنها إذا لم تلتزم بتنفيذ العقوبات ضد روسيا، ستخضع هي نفسها للعقوبات. ولأجل ذلك فإنها قررت، ضمن حزمة العقوبات الجديدة، إنشاء آلية مراقبة لتنفيذ العقوبات، ستتولى رئاستها في العام الحالي، لا علاقة لها بالأمم المتحدة. كذلك تتضمن حزمة العقوبات الأخيرة تصورا مستقبليا للاستمرار اقتصاديا وقانونيا؛ فمن الناحية الاقتصادية، يوجد اتفاق بين الدول السبع الصناعية، على أن يتم إعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب بأموال روسية، وأن تدفع روسيا تعويضات لضحايا الحرب. وطبقا لتصريحات متوافقة صدرت عن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين، وكمالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي، فإن المفوضية الأوروبية ووزارة الخزانة الأمريكية أصدرتا تعليمات إلى المصارف العالمية، بحصر أموال البنك المركزي الروسي والشركات الروسية والأفراد المجمدة لديها، وتحديد حجمها، وأماكن توزيعها، على أن يستمر خضوعها للتجميد حتى نهاية الحرب، واستخدامها في ما بعد لتمويل إعادة الإعمار ودفع التعويضات. وكانت المفوضية الأوروبية قد حاولت فعلا مصادرة ودائع البنك المركزي الروسي لدى البنوك السويسرية، لكن مجموعة عمل قانونية سويسرية قالت إن مثل هذه الخطوة تتعارض مع القانون الدولي. أما عن الاستمرارية القانونية، فإن وزارة الخارجية الأمريكية قالت في بيان العقوبات إنها «حددت، بعد تحليل دقيق للقانون والوقائع المتوفرة، قيام عناصر في القوات الروسية ومسؤولين روس آخرين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في أوكرانيا». وجاء في البيان «الولايات المتحدة وشركاؤنا ملتزمون بمحاسبة المسؤولين عن الهجمات والفظائع الروسية ضد الشعب الأوكراني، وضمان مثول المرتكبين، ومنتهكي حقوق الإنسان، ومجرمي الحرب أمام العدالة». توسيع نظام العقوبات الأمريكية ضد روسيا، وتحويله إلى ما يمكن أن يصبح مؤسسة مستقلة بذاتها، داخل مجموعة الدول السبع الصناعية، يستهدف إضعاف روسيا وعزلها، وليس مجرد إضعاف قدرتها على تمويل الحرب، وفرض رقابة على سلوك كل دول العالم، من حيث الالتزام بالعقوبات. هذا التطور الخطير في نظام العقوبات يمثل اعترافا ضمنيا بفشل العقوبات المفروضة على روسيا منذ عام 2014. فلا تلك العقوبات نجحت في إخراج القوات الروسية من القرم، ولا هي منعت دخولها إلى أوكرانيا، ولا أضعفت قدرتها على مواصلة القتال في العام الماضي.

المتربحون من الحروب الاقتصادية

استمرار العقوبات وتحويلها إلى آلية مؤسسية للولايات المتحدة ودول حلف الأطلنطي ضد خصومها، يستجيب لمصالح التجمع الصناعي – العسكري في العالم، وتحالف شركات النفط والسلاح والشركات الدولية العملاقة، التي تستغل العقوبات في تحقيق أرباح استثنائية ضخمة، كما حدث في العام الماضي، حيث عادت عليها العقوبات بأرباح مضاعفة؛ فهي تأكل وتسمن من جيوب مواطني العالم أجمع، وفي مقدمتهم فقراء الدول النامية، الذين يدفعون تكلفة مضاعفة لأزمات الطاقة والغذاء والتمويل، التي أشعلتها العقوبات، بإحداث خلل هيكلي مفاجئ وعميق في الأسواق. شركات السلاح الأمريكية حققت أفضل معدلات الأداء بين الشركات الصناعية المسجلة في بورصة نيويورك؛ فبينما خسر مؤشر «ستاندرد آند بورز» 19.4 في المئة من قيمته في العام الماضي، فإن مؤشر شركات السلاح حقق ارتفاعا بنسبة 9.5 في المئة، بل إن بعض شركات السلاح تمكنت من مضاعفة أرباحها مثل «رايثيون للتكنولوجيا»، التي بلغت أرباحها في الربع الأخير من العام الماضي 1.4 مليار دولار مقابل 675 مليون دولار في الربع المقابل من عام 2021. كما حققت شركات النفط والغاز الغربية الكبرى أرباحا مجمعة بلغت 219 مليار دولار في العام الماضي، أي ما يزيد عن ضعف الأرباح التي حققتها في العام السابق. وحققت شركات إنتاج وتجارة المواد الأولية والسلع الزراعية أرباحا فاحشة، تحت غطاء العقوبات. على سبيل المثال قفزت أرباح مجموعة (غلينكور) للتعدين والمواد الأولية والتجارة في النصف الأول من العام الماضي بنسبة سنوية بلغت 220 في المئة. وفي نهاية السنة المالية قفزت أرباح الشركة إلى 34 مليار دولار، ووزعت على مساهميها أرباحا تجاوزت 7 مليارات دولار. هذه الشركات هي التي تمول حملات المرشحين لعضوية المجالس التشريعية والمناصب السياسية في الدول الصناعية، ومن مصلحتها نشر الأزمات، حتى، إذا كان انتشارها يصل إلى حد حرب اقتصادية عالمية، لأنها كلما اشتدت الأزمة تعاظمت فرصة الربح! إن الارتباط الشبكي العميق، أو العلاقات المتبادلة بين أزمات الطاقة والغذاء والتمويل، يعني أنه من الصعب حل كل واحدة منها بآليات منفصلة ومستقلة. كما أن ارتباط هذه الأزمات بالعقوبات وليس بالحرب، يعني أنه حتى في حال انتهاء الحرب، سيؤدي استمرار العقوبات إلى استمرار الحرب الاقتصادية العالمية وتداعياتها السلبية. ولذلك فإن الولايات المتحدة تبتكر آليات جديدة، من خلال المؤسسات الدولية الخاضعة لنفوذها، مثل صندوق النقد والبنك الدولي، تشكل ما يمكن أن نطلق عليه «استراتيجية إدارة الحرب الإقتصادية»، بهدف تعزيز قدرة الدول الحليفة على التحمل، وتعميق جراح الدول المستهدفة بالعقوبات، حتى تتحول إلى دول هشة أو فاشلة.

القدس العربي



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات