المستمع القريب في القرآن

تم نشره الثلاثاء 18 نيسان / أبريل 2023 12:33 صباحاً
المستمع القريب في القرآن
توفيق قريرة

الكلام لسانيّا ومهما كان نوعه بشريّا أكان أم مقدّسا، يجمع بين متكلم وسامع حول كلام. ولا حرجَ علمي في أن تجري هذه العلاقة على القرآن بما هو كلام الله. عبارة كلام الله التي تطلق على هذا النصّ تقتضي أن يبنى النصّ بما هو رسالة على هذا المثلّث التواصلي، صحيح أنّه تواصل من نوع خاصّ ومعقّد وإيماني وروحي ورسالي، لكنّه يظلّ تواصلا على قاعدة المثلث المذكور. إن اعتبرنا القرآن رسالة أو جزءا من رسالة بعث لأجلها الرسول محمد (ص) زدنا تسليما بأنّ الكلام رسالة من مرسَل إلى مرسل إليه، مع ملاحظة لا تزعج اللسانيّين في هذا السياق وهي دور الرسول في هذه الرسالة، أهو وسيط ومبلّغ، أم هو طرف فاعل في الرسالة بالشرح والتوضيح والترتيب (بما أن القرآن نزل منجّما)؟
سنهتمّ في هذا السياق، ومن وجهة نظر لسانيّة، بركن من أركان الرسالة الثلاثة هي المستمع في القرآن وسوف نفرد الكلام لنوع منه مخصوص هو المستمع القريب. ونحن نشرح في إيجاز المقصود بالمستمع القريب، سوف نقلب العناية، على غير العادة المنهجية، بأن نعرّف بالصفة (قريب) قبل الموصوف (المستمع)؛ فصفة القريب هي التي تحدّد أحيانا هذا المستمع وليس العكس.
من ألطف المعاني التي تكون مفاتيح لنا في هذا السياق، أن اللّه مستمع قريب لعباده يفهم هذا من سياقات كثيرة في النصّ القرآني ومنها قوله تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (البقرة 186) هذا السّياق مثالي في قَرْنِ القُرب بالسمع وفي جَعل السمع نتيجة لذلك القرب. وعلى الرغم من أن نصّ الآية ليس فيه ما يدلّ صراحة على السمع، فإنّ سياق القرب والدعاء في الآية اقتضاه اقتضاء قريبا من الأذهان فقد جاء في تفسير الطبري (ناقلا ): «يعني تعالى ذِكْرُهُ بذلك: وإذا سَألك يا محمد عبادي عَنّي: أين أنا؟ فإني قريبٌ منهم أسمع دُعاءَهم، وأُجيب دعوةَ الدّاعي منهم». معنى كون الله قريبا سامعا هو، من دلالات النصّ الأولى التي لا تحتاج إلى حفر عميق؛ بل إن معنى الدعاء أصلا مؤسس على إيمان لدى الداعي لا يزعزعه شيء بأنّ الله قريب يسمع الدّعاء، هذا ممّا لا شكّ فيه؛ لكنّ الاستجابة لا تكون إلاّ على درجات الإيمان، ذلك أن الله يُجيب الدعاء إن استجاب المؤمنون للتّعاليم الإلهيّة وهي ركن ركين في إيمانهم، فذلك الإيمان هو هدْي ورَشاد. فكأنّنا إزاءَ دائرة تضمّ مؤمنا يقرب أكثر بالإيمان ويسمع لما أرشده به النصّ ولما جاء به من تعاليم؛ ونجد في الدائرة نفسها إلها قريبا مستمعا لمن دعاه مجيبا لمن استجاب. إن السمع القريب لا يكون إلاّ من داعٍ قريب كان بدوره مستمعا بانتباه ومن قريب إلى رسالة الله إليه.
في الآية أسند فعل استجاب إلى المؤمن الداعي، وأجاب إلى الله وفي هذين الفعلين فائدة لغوية أريد التوقف عندها، لكن بعد أن أعرج على ما قاله العلاّمة المرحوم محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره «التحرير والتنوير»؛ إذ يعتبر الفعلين مترادفين فيقول: «وقَوْلُهُ «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي» تَفْرِيعٌ عَلى (أُجِيبُ) أيْ: إذا كُنْتُ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِي فَلْيُجِيبُوا أوامِرِي؛ واسْتَجابَ وأجابَ بِمَعْنًى واحِدٍ.

كان طلب موسى من جنس تقديره، وهو أن يتجلّى له الله حبّا في رؤيته (ليست رؤية مادّية بالضرورة فالتجلّي عند المتصوّفة رؤية نفسيّة: انظر حديثا دقيقا لابن عاشور في هذا المضمار) لكنّ ما حصل كان جوابا لا استجابة.

وأصْلُ أجابَ واسْتَجابَ أنَّهُ الإقْبالُ عَلى المُنادِي بِالقُدُومِ، أو قَوْلٌ يَدُلُّ عَلى الِاسْتِعْدادِ لِلْحُضُورِ نَحْوَ (لَبَّيْكَ) ثُمَّ أُطْلِقَ مَجازًا مَشْهُورًا عَلى تَحْقِيقِ ما يَطْلُبُهُ الطّالِبُ؛ لِأنَّهُ لَمّا كانَ بِتَحْقِيقِهِ يَقْطَعُ مَسْألَتَهُ فَكَأنَّهُ أجابَ نِداءَهُ.» لقد ذهب الشيخ بن عاشور في الدائرة الإيمانية التي تحدثنا عنها نفسها، لكن باعتماد ترتيب يقف على طرفي نقيض من ترتيبنا، ذلك أن استجابة الناس لله تكون مشروطة باستجابتهم لدعوته وليس العكس. وهذا التشارط مقبول في السياق النفعي وليس في أيّ سياق إيماني عامّ نعني بالسياق النفعي في كلام الشيخ بن عاشور، أن الدعاء بشيء والحصول عليه بتسهيل ربّاني هو مكافأة على الإيمان الصحيح، فلا يجيب الله إلا لمن أستجاب له بالإيمان والخضوع والسير على الصراط المستقيم، يكون هذا التصوّر النفعي في سياق إقناع بالإيمان وليس في سياق يكون فيه المؤمن قد آمن.
ومن جهة أخرى اعتبر الشيخ بن عاشور في كلامه أعلاه أن (استجاب وأجاب بمعنى واحد) ؛ وهذا قول لا أراه دقيقا لا لأنّ اللسانيّين لا يؤمنون بوجود ترادف في مستوى سياقي، أو نسقي وهذه مسألة أخرى لا تعنينا هنا؛ بل لأمرين آخرين: أحدهما أن الإجابة والاستجابة قائمتان على الشرط من ركنين: يا عبدُ: إن تدعُ أجِبْكَ؛ إن دعوتُك استجب، ولا يعنينا هنا من الذي عليه أن يدعو أولا، لكن يعنينا أن كلّ شرط بني بعبارة الله يجيب (أو لا يجيب) لكن العبد يستجيب (أو لا يستجيب) للإيمان. جواب العبد استجابة لأنّها مرتهنة بدعوة، لكن من صفات الله أن يكون مجيبا بقطع النظر عن حدوث الدعاء. هذا المعنى قرآني يعبّر عنه بمعنى الرحمة «ورحمتي وسعت كلّ شيء» (الأعراف 146). الأمر الثاني أن معنى أجاب في القرآن أوسع من استجاب فمن أسمائه أنّه مجيب ولا تقصر صفته على الدّعاء دون غيره. المستجيب لغة هو من اقتصر جوابه على من دعاه إلى شيء لكنّ المجيب لفظ يتسع لهذه الدائرة الدلالية ولغيرها التي لا تتطلب دعاء. يصف الباري نفسه بالمجيب إذ يقول: «ولقد نادانا نوحٌ فلنعمَ المجيبون» (الصافات 57) وبالصفة نفسها، لكن في صيغة المفرد يقول: «إن ربّي قريبٌ مجيب» (هود 61) بينما يستعمل المزيد حين يتحدّث عن المؤمنين المستجيبين للتعاليم، كما في قوله تعالى: «يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم» (الأنفال 24). وفي الأعراف ما يدلّ على أن الله يجيب، لكن لا يستجيب وذلك في قوله تعالى: «وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» (الأعراف 143). تقتضي «المحاورة» التي لا يعنينا أن نخوض في تفاصيل جريانها، أن يكون موسى مستمعا قريبا، لكن أيضا قائلا قريبا؛ وفعل الطلب لم يحدث إلا في سياق تطوّر «المحاورة» وهذا شرط من شروط الدعاء. أنت لا تطلب إلاّ بعد أن تختبر فيها أن من تطلب منه هو قريب روحا قبل أن يكون سمعا. لكنّ الإشكال أنّك يمكن أن تطلب ما لا يقبل، لا لأنّ القدرة أقلّ من الطلب، بل لأنّ الطلب يكون على قدر تقدير الطالب من المطلوب، وقد يكون تقديرا غير مناسب. كان طلب موسى من جنس تقديره، وهو أن يتجلّى له الله حبّا في رؤيته (ليست رؤية مادّية بالضرورة فالتجلّي عند المتصوّفة رؤية نفسيّة: انظر حديثا دقيقا لابن عاشور في هذا المضمار) لكنّ ما حصل كان جوابا لا استجابة. لو كان في الأمر استجابة لكانت من جنس الطلب، لكنّ الله الذي قدّر أن طلب موسى من جنس مراده هو وقتها أجابه بجزء من تحقق التجلي خلخل كيانه ودكّ خارجه: كان جوابا بأنّ طلبه كان مجاوزا لما يُطلب من الذات الإلهية فلم يكن استجابة لما طلب ولم يكن تلبية أيضا بل كان جوابا. الاستجابة هي ردّ متحقق الشروط كاملة على طلب قد يكون دعاء، والجواب هو ردّ محكم على ذلك الطلب راعي فيه الخالق حكمته لا حكمة طالبه. لو استجاب الله لموسى لزال مفهوم أساسي للإله كما يقول بارت وهو الغياب. ولو استجاب الله لكل دعوة لصار الغني فقيرا، والفقير غنيّا بمجرد دعاء ولأفنى الناسُ الناسَ بواسطة الربّ.

أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية

القدس العربي 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات