آخر الأوائل… في وداع سلمى الخضراء الجيوسي

تم نشره الخميس 27 نيسان / أبريل 2023 12:48 صباحاً
آخر الأوائل… في وداع سلمى الخضراء الجيوسي
ابراهيم نصر الله

كان لروايتي الأولى «براري الحُمّى» الفضل في ذلك اللقاء الذي جمعني بالدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي عام 1986، إذ أرسلتْ إليّ رسالة تقول فيها إنها أعدّت حقيبتها على عجل مسافرة إلى يوغسلافيا، وهناك عندما فتحتها، بعد وصولها، وجدت نسختين من هذه الرواية، فاعتبرت الأمر علامة. قرأتها، وكنت محظوظاً أنها قررت ترجمتها، وضمها إلى كتب مشروع «بروتا» الذي أسسته عام 1980 لترجمة الأدب العربي إلى الإنجليزية، وصدرت الرواية، التي كانت الكتاب الأول لي بالإنجليزية بترجمة العزيزة مي الجيوسي والشاعر الإنجليزي جيرمي ريد.
أدين لسلمى بأنها كانت الباب الأول الذي دخلتْ منه كتبي إلى الإنجليزية، بل إلى بقيّة اللغات، لكن علاقتنا منذ ذلك التاريخ لم تتوقّف، وتعززت أكثر بعد إقامتها في العاصمة الأردنية، بعلاقة استثنائية جمعتني وفاروق وادي بها، فكانت الجلسات معها تمتد ساعات وساعات، وفي هذا أدين لها للغنى الذي ملأ تلك الجلسات بالذكريات والأفكار والعزم على مواصلة العمل دون أن يخطر ببالها مطلقاً أن هناك خطَّ نهاية؛ هذه الرائعة التي كانت على الدوام محتشدة ببدايات لا حصر لها.
مع سلمى تتعلّم المعنى الحقيقي لأن يملك الإنسان مشروعاً ويكرّس حياته كلّها له، فلا متاعب العمر توقفك، ولا الخذلان يوقفك، ولا الطرُق المقفلة أيضاً. لقد امتلكت دائماً عزيمة استثنائية في قهر الصّعاب.
خلال الأيام الماضية، التي أعقبت وفاتها، عدت لقراءة رسائلنا المتبادلة، إلكترونياً، وكم سررتُ أن تلك الرسائل لم تزل موجودة، مؤجلاً البحث عن الرسائل المتبادلة قبل عصر الإنترنت، وإن كنت أعتقد أن رسائل إلكترونية كثيرة اختفت بسبب تحديث المحركات، أو حذف الرسائل بسبب التراكم، لكن الخروج بهذا العدد من الرسائل سالماً كان يعني الكثير بالنسبة إليّ.
وإن كان المرء ينسى، فإنني لا أنسى ذلك اليوم الذي شاركتُ فيه مع المحامية أسمى خضر والكاتبة سميحة خريس والدكتورة وفاء الخضرا، في حفل التكريم الذي أقامه منتدى كلية الآداب والفنون في جامعة عمان الأهلية، كان للمفارقة في يوم 21 نيسان 2009، في الوقت الذي سرنا في جنازتها مودِّعين يوم السبت الماضي، 22 نيسان الجاري، ذلك الوداع الذي ذكّرني باليوم الذي ودَّعْنا فيه الدكتور إحسان عباس. ولعل الحزن الأكبر الذي عصف بالمرء هو أننا نودع آخر أوائلنا الكبار، الذين شقّوا طريق الأدب الفلسطيني بإسهاماتهم التأسيسية فيه، وفي الثقافة العربية في آن، ورفعوا سقف الأدب عالياً بما منحونا إياه من معرفة وجمال وحب.
في يوم تكريمها ذاك، في جامعة عمّان الأهلية، عدتُ أيضاً لقراءةِ بعضِ ما كتبتُه عن الدكتورة سلمى، وقلتُ علّي أستطيع الاستعانة ببعضه للحديث عنها، ولكنني اكتشفتُ ببساطة أن الدكتورة سلمى قد سبقتْ كثيراً كلَّ ما كتبتُه، تجاوزتْهُ، محقِّقةً ما هو أكبرُ من الكلماتِ التي قيلتْ في إنجازِها.
لقد كنا دائماً في سباقٍ معها، وكانت في سباق معنا ومع العالم كله، لذا سنظلُّ فخورينَ دائماً أنها كانت القادرة على أن تسبقَ تقديرَنَا لها ومدائِحَنا فيها بمراحلَ كثيرة.
ولعلَّ مأزِقَ كلماتنا أنها تذهبُ بكلِّ ما لديها من حبٍّ لكي تصِفَ هذه المرأةَ الطليعيَّةَ العظيمةَ، غير مدرِكَة، وأعني كلماتنا، أن مأزِقَ الوصفِ قائم دائماً في هشاشته أمام هذه المبدعة الكبيرة التي استطاعتْ أن توسِّعَ سماءنا وتمنحَها آفاقاً جديدةً وأحلاماً جديدة وشموساً دائمةَ التَّوهج. إنها الفرد في تألُّقهِ الحضاري الذي استشرفَ وعمِلَ وأنجزَ وقطعَ هذا الطريقَ الطويلَ دون أن يتساءل عن عددِ أولئك الذين يسيرون معه أو عن عددِ أولئك الذين يقفونَ ضده.
لقد حملتْ الدكتورة سلمى قلبَها ومضتْ نحو الشمس، ومضت لتبديدِ كلِّ ذلك الليلِ الملتفِّ على أوجاعنا كاتماً صراخَنا وحنينَنا وأشواقَنا وجمالَنا الذي يستحقُّ أن يكون جزءاً من جمال العالم.
عمِلتْ الدكتورة سلمى الجيوسي حين لم يكنْ هناك أحدٌ على استعدادٍ لأن يُفكِّر في مشروع كبيرٍ كمشروع (بروتا) لترجمةِ الأدب العربيِّ وتقديمِ أنصعِ مساهماتِنا كأمةٍ للعالم، وسارتْ حين كانت دول ومؤسسات ووزارات تكتفي بالقُعودِ والقبولِ بكلِّ تلك الأفكار التي يحملها غربٌ عن شرقٍ ليس في صورتِهِ ما يشير إلى جوهر، وليس في حضارتهِ ما يدلّ على وجودٍ في الإبداع والقدرةِ على إغناءِ المشهدِ البشريِّ بكلِّ ما هو عميقٌ وحرٌ، وعن فردٍ ليسَ هناك من دوْرٍ يمكن أن يلعبَهُ أمامَ حروبِ الإبادة أفضلَ من أن يكون الضَّحيَّة!
من هنا انطلق مشروع الدكتورة سلمى، وهكذا أصبح الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن ينتهي بالنسبة لها هو العمل.. والشيءُ الوحيدُ الذي لا يمكن أن تقبلَ بأن يكون أقل من حجمِهِ: ثمار الأمل.. والمستوى الوحيدُ الذي لا يمكن أن تتنازلَ عنه هو الأفضل.
لقد كان عليها أن تتخفّف، في سبيلِ رسالةٍ كبيرةٍ كهذه، من كلِّ ما يُعيقُ مسيرتها، كان عليها أن تتخفَّف من فرديتِها وطموحاتِها الخاصةِ كلِّها، ومن مشروعها الكبيرِ: الشِّعر، كي تحققَ حضورَنا كأمَّة في زمن غدوْنا فيه الأقلَ وزناً والأقل جدارةً بالحياة.
من المؤسف أنه لا يوجد لدينا ما يكفي من الحجارة لرجمِ حالاتِ التقصير العربي في هذا المجال، فعلى الرّغم من إدراكِ الجميع أن الثقافةَ هي قلعتُنا الأخيرةُ وخندقُنا الأخير وملامحُنا الأخيرةُ أيضاً، إلا أنَّ ثقافتَنا العربيةَ لم تزل تعاني من حالةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ لا تريدُ معها رؤيةَ إيَّ قلاعٍ أو خنادقَ لنا على هذه الأرض.
من هنا نُدرك أيَّ مشروعٍ ذاك الذي أنجزتْهُ الدكتورة سلمى وهي تنهضُ ذات يومٍ وحيدةً، تتلَّفتُ حولها، ثم تقفُ متأمِّلةً حالنا، ثم ترفعُ رايتَها وحيدةً، وتتقدَّمُ بكلِّ هذه الجرأةِ، وحيدةً لطرْقِ بواباتِ العالمِ بجمالِنا وفتْحِ بواباتِ العالمِ بهذا الجمال، فتقدّم عشرات الأعمال الإبداعية العربية من شعر ورواية وسيرة بالإنجليزية، وعدداً كبيراً من الكتب الموسوعية مثل: «موسوعة الشعر العربي الحديث» و»أدب الجزيرة العربية»، الذي يضم ترجمات لأكثر من ستين شاعراً من الجزيرة وأربعين قاصاً، وكذلك «موسوعة الأدب الفلسطيني الحديث» و»المسرح العربي الحديث» (بالاشتراك مع روجر آلن)، و»الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس»، و»القصة العربية الحديثة»، و»تراث إسبانيا المسلمة»، وغيرها من الأعمال.
نقول للدكتورة سلمى شكراً، ونحييها، هي التي حملتْنا من هوامشِنا لتضعَنا كأمَّة في مركز الثقافة العالمية.. في المكان الذي نستحقُّهُ وتستحقه ثقافتُنا العربيةُ.
وبعـــد:
في ظني أن كلَّ تكريمٍ نالتْه كفردٍ، وقد تمّ الاحتفاء بها وبإنجازاتها واسعاً، سيظلُّ تكريماً متواضعاً أمامَ ذلك التكريمِ الذي غمرتْنا به حين كرَّمتْنا كأمَّة، بكل تلك الإنجازات الكبرى التي حققتها حين نقلت إلى الإنجليزية عدداً من أهم إبداعاتنا، وبما أوجدته من مشاريع بحثية بالإنجليزية عن الحضارة العربية لم تكن موجودة حتى في لغتنا.

القدس العربي 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات