حياتنا

رأيتم ما حصل هناك؟ بالطبع رأيتم، أو على الأقل مررتم من جانب الطريق، ولمحتم على قارعة العناوين، صورا لأشلاء مكدسة، أبطالها الرئيسيون أطفال كانوا عاديين، آمنين رغم الإحساس الذي لا يخيب، أن الأمن صار مؤخرا، قضية جدلية!ربما تكون مقدمة مقالي اليوم تشي بمتن الموضوع، بحيث تتراكض الكلمات لتصف مجزرة ولا أبشع، شهدت عليها الانسانية جمعاء، واستشهدت بأطراف أبطالها الممزقة، على قبح الجريمة.ورغم أن الزاوية التي أكتب من خلالها، في ملحق "حياتنا"، تهتم بتفاصيل الحياة أكثر من الموت، لكنني وجدت نفسي مكتوفة مربوطة مقيدة مغلولة، الى صور وأصوات وتأوهات، تخرج من بين فراغات الحروف، وتخرس كل الكلام الذي كنت أنوي التحدث عنه!بالله علينا جميعا، ما قيمة أسباب الطلاق المبكر مثلا، في حضرة عيون الأطفال نصف المغمضة؟ ماذا تضيف قصة أم نبذها أولادها، الى ملحمة تضافر الأشلاء المبعثرة لتكون لوحة سيريالية قاسية، كتلك التي تقفز أمامنا كل لحظة، وتذكرنا بعقوقنا الانسانية؟ الحب؟ يخجل أن يطل برأسه حتى من طرف نافذة، كشفت وعلى نحو فج حقيقة علمية مفادها، أن بشرا يعيشون بيننا بلا قلوب، وحياتهم طبيعية جدا!الوحدة؟ ما لها الوحدة؟ أليست أهدأ وأنظف وأجمل من.. الموت الجماعي! ماذا أيضا؟ الفقر، الخيانة، الدين، الأحلام، العزيمة، قصص النجاح مثلا! هم أيضا، أولئك الذين تشد أذني أصابعهم كانت لهم قصص عادية لم يتسن لها أن تصل الى فصول متقدمة. هذه حياتنا التي تفرمنا تفاصيلها وتخنقنا سذاجتها والتي لم نكن لنكتشف هذه السذاجة، لولا حكمة الموت، هذا الموت غريب حقا، فكلما تواجهنا معه، نتفاجأ به وكأنه اللقاء الأول!الذي حدث قبل عدة أيام في الحولة السورية، لم يكن موتا تماما، كما نفهمه نحن، بقدر ما كان فصلا حياتيا جديدا علينا. فصل يعلمنا أدب النهايات لبدايات لم تبدأ بعد..ما حدث في الحولة، ليس أولى الجرائم ولا آخرها بالطبع. لكنه برأيي هدنة تأملية تستدعي الوقوف خجلا، أمام قدرتنا على ممارسة الحياة!لم أستطع أن أكتب كلمة واحدة عن أي شيء آخر غير عيون الأطفال نصف المغمضة، وأذرعهم الممتدة تطلب النجاة من أي أحد.. أي أحد يمارس حياته "عادي جدا"!لم أستطع أن أكمل طباعة المقال، الا وأجدني، كمن يهوى تعذيب ذاته، أرفع أيقونة "الغد" من أسفل الشاشة، وأصطدم بالصور البشعة، وأشهق في كل مرة، وكأنها أول مرة!وبالمناسبة، لا كلام يمكن أن يسعف ضمائرنا أمام هذا الزخم المخجل من الصور، والذي أخجل حتى أن تكون علاقتي معه بالصور فقط. فأي كلام بعد هذا الاختزال، يندرج في خانة الحرام، من باب لغو الكلام!فاسمحوا لي يا رئاسة التحرير، وقرائي الأحباء.. أن أنتحي جانبا عن "حياتنا" هذا النهار. ففي موتهم المتراكم غليظ القوام ثقيل الحضور حد الاختناق، نبض من نوع آخر. ( الغد )