الحقيقة المرّة الغائبة

الأزمة المصرية المتفاقمة تشكل أول امتحان حقيقي وعسير لتجربة "الإخوان المسلمين"، وأهم ابتلاء تواجهه الحركة بشكل ميداني واقعي منذ انشائها، من خلال الإقدام على ممارسة الحكم والتربع على قمة هرم السلطة، ويمكن الزعم أنها تصل إلى حد "المحنة" التي تفوق في خطورتها وآثارها محنة السجون والمطاردة والإعدامات التي تعرضت إليها في الخمسينيات والستينيات عندما تم تعليق قياداتهم على أعواد المشانق، ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الابتلاء والمحنة لا تقتصر على الشر، بل تكون أيضًا في الخير، ((وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)) -الأنبياء (35)-.
تشير التجارب الكثيرة والعديدة أن فتنة النعمة والخير أشد صعوبة من فتنة الشر، وربما تكون نسبة النجاح في مواجهة محنة السجون والمعتقلات والمضايقات، أعلى بكثير من مواجهة محنة المال والسلطة والنفوذ وإقبال الدنيا. ولقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم: " ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها كما تنافسها الذين من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم ".
وفي محاولة للقياس على ما سبق يمكن القول أن عملية ممارسة المعارضة السياسية أسهل بكثير من ممارسة تجربة الأحكام ورفع سقف المطالبات إلى أعلى درجة من البلاغة اللفظية، كما يسهل ممارسة النقد بكل حدة وبكل قوة، ولكن عند التنفيذ سوف يتم الاصطدام بقدر كبير وهائل من المعوقات والصعاب التي لا تخطر على بال.
أتقنت الحركات الإسلامية على العموم والإجمال فن المعارضة، واستطاعت أن تتجاوز عبر سنوات طوال قدرًا كبيرًا من الإيذاء الذي نال أعضاءها وقياداتها على حد سواء، ولكن ما ينبغي الاعتراف به أن تجربتها العملية في إدارة الدولة والإشراف على حاجات الناس المعيشية، ضئيلة جدًا، وربما تقترب من الصفر، إلّا على صعيد بعض الحالات الفردية، وكان من المتوقع بكل تأكيد الوقوع في مآزق كثيرة داخلية وخارجية.
الرئيس مرسي يملك الشرعية الانتخابية، وهو أول رئيس مدني منتخب بشكل فعلي وحقيقي في تاريخ مصر، وهو يرأس مصر بمقتضى عقد لمدة أربع سنوات، ولكن ما ينبغي الالتفات إليه أن الفتنة لا تعرف الحكمة ولا تخضع لمنطق العقل، ولا تحتكم لقانون ولا دستور، ما ينبغي أن يلتفت إليه الرئيس وجماعة الإخوان في مصر أنهم في مأزق، وأنهم أمام واقع شديد الصعوبة والتعقيد وأنهم أمام امتحان عسير وأمام فتنة، بغض النظر عن عدالة الأسباب وعن تعسف الخصوم والفجور في الخصومة السياسية ما يتحتم على الرئيس والجماعة التفكير بعقلية البحث عن حلول، وأن يخضعوا لمنطق التنازل عن بعض الحقوق والمكتسبات من أجل إنقاذ مصر الدولة والوطن.
الرئيس أمام وقت ضيق وحرج، ولا ينفع الحديث والتصرف بمنطق الرغبة والعاطفة، وليس من المفيد الاستمرار بمنطق الضحيّة والشكوى والاكتفاء بالحديث عن أخطاء الخصوم، وإلقاء التهم فقط، فهناك أعداء للمشروع الإسلامي، يتربصون به الدوائر، وهناك مخططات ومؤامرات داخلية وخارجية، ولكن هذا لا يعفي صاحب المسؤولية والسلطة من القدرة على مواجهة الخصوم والتغلب على أصحاب المؤامرات.
ينبغي على الرئيس أن يتصرف بسرعة، وأن يتم تشكيل لجان محايدة للحوار ومحاولة التقريب بين الأطراف، والوصول إلى رسم خارطة طريق لإنقاذ مصر، وإعادة الأمن وحماية مصالح المواطنين، وهناك اقتراحات مطروحة منها تشكيل حكومة إنقاذ وطني، وقد يتم الاستعانة بالجيش للمساعدة في هذه الخطوة، وقد يكون اللجوء إلى انتخابات مبكرة في ظل حكومة محايدة تحظى بتوافق الأطراف الفاعلة.
ينبغي تفويت الفرصة على المحرضين ودعاة الفوضى، وأرباب الفتن، من خلال التعالي على سفاسف التحريض، وعدم الانجرار إلى مستنقع الفتنة، من خلال القفز عن حواجز الغيابين الذين يجدون ضالتهم في جو الفوضى العارمة، ومن خلال التصرف بروح وطنية كبيرة تستعلي على الروح الحزبية الضيقة والنظر إلى المصالح العليا للوطن على حساب مصالح الفئات والأشخاص.
هذه المرحلة الحرجة من التغيير، لا ينفع التعامل معها إلّا من خلال منطق المشاركة، ومن خلال العبقرية في البحث عن صيغ التعاون المثمر والبناء بين جميع فئات المجتمع ومكوناته بلا استثناء، والاحتكام إلى سنن الكون الغلابة التي تقتضي التدرج والهدوء والاستعياب والمرونة وترتيب الأولويات وفقًا لمقتضيات الحكمة وحسن التقدير والموازنة بين الأضرار والمصالح. ( العرب اليوم )