مذعورون... والصوت يدوي!

لم يكن غريباً أبداً أن يتحوّل رحيل وديع الصافي، الذي لا يجوز إقران قامته الفنية العملاقة بأي لقب سوى صوته الأسطوري، مناحة وطنية عارمة لا تشبه سوى التفجّع على عمالقة ذهب ويذهب معهم لبنان العزّ الذي كان. في كل لبناني وديع الصافي هو لبنان الذي يقاوم بشاعة هذا الذي بلغه لبنان اليوم. وفي كل لبناني انفجار حنين الى زمن لن يعود والى جمال وروعة وطيبة كانت ولا تزال تخترق وجدانه كلما صدح صوت الصافي وهزّ كل ما فيه.
لعلها ليست مبالغة أن يشيع رحيل وديع الصافي ذعراً حقيقياً حيال شيء مات قبله ولكن أحداً لم يكن يعترف بذعره إلا حين طوى الردى صاحب الصوت الماسي. ثمة عمالقة في الحضور الوجداني الإنساني للناس يغدون فعلاً هم الوطن حين يعزّ وجود الوطن في أي منقلب آخر. ولذا غدت فيروز أطال الله بعمرها لبنان الذي لا نزاع عليه كما كان وسيظل وديع الصافي بعد رحيله. الصوت الذي يكاد يكون "سما لبنان" والذي لم يبق على أرض لبنان جامع لأهله سواء هو ما تبقى من كل عزّ لبنان بالنسبة الى أجيال خاضت الحروب والأحقاد فإذا بها تنفجع على ما اقترفته أياديها حين تفقد صاحب الصوت الذي تبدل كل شيء في وطنه إلا صوته وسطوته الأسطورية على وجدان اللبنانيين.
أي مفارقة هذه أن ينتحب اللبنانيون ويذعرون لرحيل من بات مكوناً من مكوناتهم الجمالية الرائعة فيما هم قادرون على المضي أبعد في تشويه هذا اللبناني الذي يدين لوديع الصافي بكل العزّ الذي عرفه؟ عمالقة الفن والغناء والشعر والأدب هم القيمة التي لا تعلوها قيم أخرى في كل العالم. لكن ثمة أمراً آخر وخصوصية أخرى مع رحيل وديع الصافي، هما الخوف الذي لا حدود له من أن يكون الكثير من لبنان الذي جسّده وعاشه ورفع لواءه قد ذهب قبله ومعه. أفرط وديع الصافي الى حدود مذهلة في تنشئتنا على لبنان أسطوري افتراضي يستحيل أن يكون جميلاً هكذا إلا في صوته تماماً كما فعل بنا عمالقة الرحابنة وفيروز. هذا اللبنان جعل اللبنانيين عالقين بين إرث لا حدود لعظمته وجماله وأبهته وحاضر يكاد يكون جاهلياً الى حدود مريعة ومرعبة في انحطاط وهبوط غير مسبوقين.
إنها أكثر من جنازة عظيم عملاق هذه التي ستقام اليوم. هي محنة لبنان الذي يبكي عظمته الراحلة وأبهة الزمن الجميل الذي راح مع الراحل وقبله أيضاً مع كبار كأن لبنان يبكي لعنة فقدان العمالقة الى لا عودة ولا رجوع ولو ظلّ الصوت يدوي في سمائه وفي وجدان كل من عاش زمن وديع الصافي.
( النهار اللبنانية 15-10-2013 )