لكم وديعكم لي وديعي

كنّا كلما اشتد القصف بينما نحن في المدرسة، ايام الحرب البعيدة (القريبة؟)، تجمعنا الراهبات في المسرح الكبير، الآمن نسبياً، ويضعن لنا أغاني وطنية في انتظار وصول أهالينا لاصطحابنا، بغية اجتناب الهرج والمرج، وإبعاد شبح الخوف عنّا. الأغنيتان اللتان انحفرتا في ذهني من تلك الفترة، لفرط ما سمعتهما مراراً وتكراراً، بإيقاع شبه يومي (الفضل كل الفضل لمواسم الحرب الغزيرة في طفولتي)، هما "بحبك يا لبنان" لفيروز، و"لبنان يا قطعة سما" لوديع الصافي. الثانية تحديداً، مطبوعة طبعاً في ذاكرتي، لأني كنتُ لا أنفكّ أتساءل في سرّي، بمزيج من المرارة والسخرية، كلما أصغيتُ إليها: أي "قطعة سما" هي هذه التي تقتل أبناءها؟ عن أيّ لبنان يغنّي وديع الصافي؟
كنتُ، ولا ازال، لا أستسيغ الأغاني الوطنية عموماً،بسبب مخاطبتها التبسيطية لغرائز الشعوب، ووقوع غالبيتها في المبالغة والمثالية والتعبئة والنشيد التبجيلي الذي يراد به إنكار الواقع، والضحك على ذقون الناس بتواطؤ الناس أنفسهم. كنتُ، ولا أزال، أضع هذه الأغاني في فئة "القرد بعين إمّو غزال". ولكن لحسن حظي، "ربحتُ" وديع الصافي لاحقاً، عندما اكتشفت "الليلُ يا ليلى"، "رح حلفك بالغصن يا عصفور"، "الحب هالحرفين مش أكتر"، "هيك مشق الزعرورة" وسواها الكثير من كنوزه (كنوزنا)، فاستطعتُ أخيراً اكتشاف روعة هذه الحنجرة التي دوزنت بين الجبروت والحنان، فلم تستغرق يوماً في استعراض القوة الصوتية فحسب، ولا تساقطت في الميوعة العاطفية الزائدة، بل صهرت القطبَين المتنافرَين – مبدئياً - في محلّ ثالث، يكاد يكون وديع الصافي فريد نوعه فيه.
هذا المحلّ الثالث، أراه يتجسد خصوصاً في "رح حلفك بالغصن يا عصفور". لماذا؟ لأن الصفاء الذي تختزنه هذه الأغنية، ليس هو صفاء الحنان والرقة واللطف فقط، بل مضافاً إليه ذلك الشغف المضمّخ بصفاء الصوت المثخن بالبوح، الذي لا يكاد يُسمع إلاّ بضمير الأذن. على غرار ما يفعله حفيف ورق الحور حين يستشعر اقترابه من نشوة انغماسه في نزوة الهواء (وهي نزوة الهوى، لا أقلّ!)
لأجل ذلك، لا أجد حرجاً في أن أقول اليوم للمنحازين الى حلم لبنان (ووهمه) في أغاني وديع الصافي: لكم وديعكم أيها الأصدقاء، ولي وديعي. وديعكم أنتم يحمَّس ويمدح ويشيد؛ وديعي أنا يذيب ويدمع. وديعكم أنتم "يلعب" على وتر العنفوان؛ وديعي أنا ينسحق تحت رموش امرأة. وديعكم أنتم يظل "متل الأسد بالحزّات"؛ وديعي أنا يطلب "من تحت اجريها شي نقطتين تراب".
( النهار اللبنانية )