سوريا.. درب الآلام نحو الحرية

حمل المفكر العربي عزمي بشارة منذ بدء الربيع العربي هموم الشارع المطالب بالديمقراطية وحكم القانون، وباعتباره مناضلا سياسيا ضد الاحتلال والاستبداد من جهة وأستاذا للفلسفة السياسية من جهة أخرى، فقد قدم خلال السنتين الماضيتين قراءة عميقة ليس فقط لأسباب الثورات، بل حتى للمسار الذي يجب أن تتخذه حتى تحقق المطلب الديمقراطي.
وكتابه الذي بين أيدينا حول سوريا محاولة في التاريخ الراهن تتجاوز عملية توثيق الأحداث التاريخية إلى محاولة فهمها، وهذا أمر يتطلب بحثا عابرا للاختصاصات يقول بشارة.
من الشرارة يندلع اللهيب
رغم أوجه التشابه الكثيرة في الأسباب المحركة للاحتجاجات العربية، فإن بشارة يميز الحالة السورية عن مثيلاتها العربية بثلاثة فوارق:
ـ خصوصية المجتمع السوري المركب دينيا وطائفيا وإثنيا التي أعاقت تبلور هوية وطنية جامعة تسمح بفصل المجتمع عن النظام والنظام عن الدولة.
ـ وضع سوريا السياسي الجيوستراتيجي لأنها جزء من محور دولي لا يؤيد أي تحول ديمقراطي.
ـ اغتراب النظام شبه الكامل عن المجتمع وتعامله معه باعتباره استعمارا داخليا يسيطر عليه من خارجه.
وقبيل دخوله في صلب موضوع الكتاب (تاريخ الأحداث وفحصها)، يقدم بشارة لمحة موجزة عن المجتمعات المركبة، لكنها لمحة تحمل في طياتها لمسات ذلك المفكر الذي يدرك بعمق ماهية المجتمعات المنقسمة عموديا المحكومة من قبل دولة ما قبل مدنية حداثية.
يقول إن أبرز مخاطر المجتمعات المركبة في حال عدم رسوخ الدولة الحديثة عندما تُوهم جماعة أنها تمتلك الدولة، في هذه الحالة يصبح تأكيد الجماعات الأخرى لهويتها مسألة اعتراض على هوية الجماعة التي تدعي امتلاك الدولة، وإذا كانت هوية الجماعة التي تمتلك الدولة أقلية، فإن شعورها بأنها ضحية تاريخية يساهم في زيادة شدة القسوة في القمع، وهذا يعني انتشار سياسات الهوية في العمل السياسي بشكل يحول الصراع من أجل الحقوق إلى استقطاب هوياتي.
بعد ذلك يتابع المؤلف رصد مسار الأحداث عبر فحص دقيق لها، منوها بما هو مشكوك فيه، ومعلنا ما هو مبالغ فيه أو كذب من هذه الجهة أو تلك عبر تقصًّ ميداني دؤوب لباحثين سوريين.
بدأت الحركات الاحتجاجية كردة فعل جهوية شعبية على انتهاك مباشر وجسدي لحقوق الإنسان في درعا، لتنتقل بعد ذلك إلى مدن ريف دمشق وحمص واللاذقية وحماة ودير الزور، غير أن توطن الاحتجاجات في الأطراف ومركزها لا يعني أن الثورة السورية ثورة ريفية، فالفقر قد يكون محركا للاحتجاج لكنه لا ينتج ثورات ترفع شعارات سياسية بالضرورة، ولهذا فإن من أطّر الثورة وأكسبها طابعا سياسيا هي عواصم المحافظات حيث توجد طبقة وسطى وفئات مهنية ذات وعي سياسي.
"بدأت الحركات الاحتجاجية كردة فعل جهوية شعبية على انتهاك مباشر وجسدي لحقوق الإنسان في درعا، غير أن توطن الاحتجاجات في الأطراف ومركزها لا يعني أن الثورة السورية ثورة ريفية"
حاول النظام مع استخدام الخيار الأمني القوي، تقديم تنازلات سياسية عبر تأليف لجان تشرع في دراسة ثلاث حزم إصلاحية هي إلغاء حالة الطوارئ، وإعداد قوانين الأحزاب والإعلام، وإعداد قانون ينظم التظاهر السلمي.
أمل النظام أن تساهم هذه الخطوات الإصلاحية في تقليص المشاركة الشعبية، لكن ما لم يفهمه هو عامل الزمن في مرحلة التغيرات الثورية، فقد كانت الخطوات الإصلاحية المتخذة تجري بأثر رجعي، أي أن التنازلات التي قدمها النظام قبيل جمعة الإصرار (15/4/2011) كانت مطالبَ المحتجين في الأيام الأولى لانتفاضة درعا، وكانت كفيلة في حال اتخاذها في ذلك الوقت بتغيير مسار الأحداث.