ثلاثة محاربين ومحلل استراتيجي يروون قصة "الكرامة "

المدينة نيوز:- يستذكر الأردنيون في الحادي والعشرين من آذار من كل عام معركة الكرامة الخالدة والبطولات والتضحيات التي سطرها منتسبو القوات المسلحة الأردنية- الجيش العربي، في دحر العدوان والأطماع الصهيونية في معركة أعادت للأمة الأمل بقدرة العرب على هزيمة "الجيش الذي لا يقهر".
ففي مثل هذا اليوم من عام 1968 كان الجنود الأردنيون البواسل على موعد مع النصر في معركة غير متوازنة في العدد والتجهيزات، إلا من قوة العزيمة والايمان والإصرار على ردع غرور قادة العدو الذين صوروا لجيشهم أن عبور النهر الخالد باتجاه الشرق هو "مجرد نزهة لا غير".
وفي غمرة الاحتفال بذكرى المعركة الخالدة، عقدت وكالة الانباء الاردنية (بترا) ندوة تحدث فيها ثلاثة من أسود الجيش العربي الذين شاركوا فيها، ومحلل استراتيجي، حول بطولات "الكرامة"، وتفاصيل وأبعاد، وملابسات المعركة منذ بدايتها وحتى اندحار المعتدين وتحقيق النصر العربي الأول في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، ما شكل نقطة تحول استراتيجي في الصراع اذا ما اخذنا بالاعتبار الاهداف والغايات التي كانت اسرائيل تسعى الى تحقيقها.
وأشار المتحدثون الى أن الاحتفال بذكرى معركة الكرامة هذا العام يأتي في ظل ظروف اقليمية غاية في الخطورة، والحاجة لاستلهام الدروس والعبر من بطولات الكرامة التي تمدنا بالعزيمة لصون امننا الوطني والمحافظة عليه، ليبقى الاردن حراً عزيزاً كريماً مصونًا في أرضه وعرضه وممتلكاته، بفضل زنود جنودنا البواسل الرابضين على حدودنا اليوم، أحفاد أولئك الأسود الذين صنعوا النصر في معركة الكرامة.
الفريق فاضل علي فهيد: استخباراتنا العسكرية توقعت المعركة.
ويقول الفريق فاضل علي فهيد، احد ابطال معركة الكرامة، "تعد ذكرى معركة الكرامة مناسبة فريدة من نوعها في التاريخ الحديث، ونقطة مفصلية في زمن كاد الإنسان فيه أن يفقد الأمل في التغلب على إسرائيل خاصة بعد نكسة عام 1967، مشيرا الى ان حديثا منفصلا عن معركة الكرامة قد لا يعطي صورة مفصلة وواضحة لجيل اليوم، أو الأجيال التي لم تكن تعي تلك الأحداث.
ويقول، في البداية، استطاع الأردن الاحتفاظ بالضفة الغربية بعد حرب 1948، الأمر الذي لم يرض بعض الدول ولم يسرها، وذهب بهم القول فيما بعد إلى أن الضفة الغربية "تعيش احتلالا أردنيا"، وفي عام 1964 أنشئت قيادة عربية موحدة في القاهرة لإدارة الجيوش العربية برئاسة جنرال مصري (الفريق علي علي عامر)، وبدأت هذه القيادة بالتخطيط لبناء الجيوش العربية، وأول ما صدر عنها؛ "أن لا تأتي الجيوش العربية بأي حركة تعطي إسرائيل مبررا للاعتداء على الجبهات العربية، ومنع العمل الفدائي حتى تكون الجيوش العربية جاهزة للدفاع عن الأراضي العربية"، كما وزعت الخطة العربية على الجيوش العربية والتي كان مفادها بأن الجيوش العربية ستكون جاهزة للدفاع عن الأرض العربية في عام 1971.
وبدأ بناء الجيوش بعد ذلك وشكل في الضفة الغربية سبعة ألوية جديدة من الجيش الأردني، بالإضافة لبعض عناصر من الحرس الوطني آنذاك، وحدث هناك بعض الاعتداءات التي كان الجيش الأردني يتصدى لها كان آخرها عام 1966 والتي عرفت بمعركة السموع والتي استشهد فيها عدد من أفراد الجيش منهم (محمد ضيف الله الهباهبة، والطيار موفق السلطي الذي أسقط طائرة إسرائيلية وسقطت طائرته بعد ذلك).
بعد ذلك كان هناك اشتباك اسرائيلي سوري على الحدود بينهما، وكانت اسرائيل تحاول تغيير مجرى نهر الأردن الأمر الذي يعني أننا دخلنا "حرب مياه"، وبدأ العرب يستشعرون الخطر لأنها عملية حياة أو موت، وجرت معركة في شهر نيسان عام 1966 بين إسرائيل وسوريا، وفي تلك الأيام كانت هناك معاهدة الدفاع العربي المشترك بين مصر وسوريا، وفي تلك الأثناء قام الروس بتمرير معلومات للسلطات المصرية بأن هناك حشودا إسرائيلية على الحدود السورية بنية الاعتداء والدخول إلى الأراضي السورية.
وكان للرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله آنذاك قوات مصرية في اليمن لمساندة الثورة هناك تقدر بـ (40) ألف جندي، إلا أنه أمر بإغلاق مضائق تيران أو ما يعرف اليوم بشرم الشيخ، التي كانت في تلك الفترة الشريان الحيوي لإسرائيل، ثم أتبع ذلك بطلب سحب قوات الطوارئ الدولية في سيناء الأمر الذي يعني إعلان حالة حرب، وكان يفترض أن تقوم مصر بمجرد تقديم هذا الطلب بالهجوم على إسرائيل، ولكن للأسف انتظرت حتى جاءت الضربة الإسرائيلية.
وقبل الضربة الإسرائيلية استشعر المغفور له بإذن الله الملك الحسين بن طلال الخطر، وفوجئ المجتمع الأردني والعربي بوصول الملك حسين إلى مطار القاهرة، وعقد اجتماعا عاجلا مع الرئيس المصري عبد الناصر وتم الخروج باتفاقية دفاع عربي مشترك بين الأردن ومصر، والعودة إلى الأردن برفقة أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والجنرال المصري عبد المنعم رياض ليشرف على الجبهة الشرقية وكان ذلك في 30 ايار 1967.
ونتيجة لذلك، استنفر الجيش الاردني ووضع في حالة طوارئ، ووقعت حرب 1967، "وبكل صراحة، هزمنا فيها هزيمة نكراء"، لكن الهزيمة كانت للسياسة العربية وليست للجندي العربي، لأن (الفزعة) لا تؤدي إلى نتيجة، فلم يكن هناك تخطيط أو تحضير لأي شيء، وبعد ذلك جاء قرار الانسحاب من الضفة كخيار من اثنين أمام المغفور له بإذن الله الملك الحسين؛ إما أن يبقي الجيش ويدمر وتحتل الضفة الغربية، وإما أن ينسحب الجيش على أمل إعادة بنائه، وتحتل الضفة، وكان القرار مشتركا أردنيا مصريا.
وبقي الفدائيون في الأردن بقرار من الدولة وبدأت حرب الاستنزاف؛ وهي معركة في سلسلة معارك ضمن حرب، إذا خسرناها سنستعد للجولة القادمة، وظلت الجبهة الأردنية ساخنة طوال عام 1967 ولغاية شهر آذار من عام 1968، وكانت هناك عدة معارك شبه يومية وطيران يقصف المدن والقرى حتى 15 شباط عام 1968، اليوم الذي وقعت فيه معركة شاملة وواسعة قصف العدو الإسرائيلي فيها 51 قرية أردنية في محافظة إربد وعلى امتداد الأغوار، استشهد فيها منصور كريشان رحمه الله، وكان يطلب من الفدائيين خلال الفترة بين عام 1967 ومعركة الكرامة القيام بعمليات عبر النهر بمساعدة القوات الأردنية لهم بالإمكانيات والمعدات، حتى أن المغفور له الملك حسين أمر في احدى المرات بإعطاء أسلحة من الجيش الأردني للفدائيين.
وفي مطلع آذار وردت معلومات من الاستخبارات العسكرية الأردنية (التي كان مديرها آنذاك العقيد غازي عربيات يرحمه الله) عن اقتراب العدو من اقتحام أو اختراق الحدود الأردنية، ووزعت برقية من الاستخبارات العسكرية قبل 48 ساعة من معركة الكرامة ( 19 آذار 1968) تشير إلى أن وقت الهجوم يحتمل أن يكون صبيحة يوم الخميس 21 آذار.
ويضيف الفريق فهيد: "في هذه المعركة لم يعتمد الجيش الأردني بعد الله الا على امكانياته الذاتية، لأنه في عام 1967 وُعدنا بطيران من مصر وسوريا وقوات عراقية ولم يأت أحد، وكنا نعلم أن الضربة الجوية الاسرائيلية على مصر قضت على 97 بالمائة من سلاح الجو المصري، وقضت على الجيش المصري في سيناء، وجعلت الجثث على امتداد المحاور في سيناء أشلاء متناثرة، فيما دفعنا نحن الثمن في حرب حزيران".
وقال :"بعد معركة 1967، لم يبق أمامنا إلا الإيمان بالله وعزيمة القتال، علماً بأننا فقدنا ما يقارب من 80 بالمائة من معداتنا وتجهيزاتنا وأسلحتنا ومدافعنا وتكديسنا من الذخائر في الضفة الغربية، في ظل عدم وجود إمكانية لشراء أسلحة جديدة، وبدأنا بالتعويض من بعض القطع القديمة الموجودة في مستودعاتنا، ومع ذلك كان التنسيق بين أسلحة الجيش في أعلى درجاته".
ويشير الفريق فهيد الى أنه عندما عبرت القوات الاسرائيلية في الساعة (5:30) صباح يوم معركة الكرامة، التي كانت تتشكل من (اللواء المدرع السابع واللواء المدرع 60 ولواء المظليين 35 ولواء المشاة 80 وخمسة أسراب طائرات وخمس كتائب مدفعية وطائرات هيلوكبتر تحمل اثنتين من كتائب القوات الخاصة)، كانت كفيلة باحتلال الأردن كاملا في ذلك الوقت وبسهولة.
وادعى الإسرائيليون حينها أنهم كانوا يريدون مهاجمة نقطة أو قرية تدعى (الكرامة) لطرد الفدائيين منها، ولكن في الواقع كان الهدف الإسرائيلي (خاصة بعد أن رأوا أن عزيمة وصلابة الأردن لم تتأثر) هو "إحضار الأردن إلى طاولة الاستسلام" من خلال احتلال أجزاء من الضفة الشرقية ومن ثم بدء التفاوض على هذا الأساس، وليس على الضفة الغربية، وكانوا يعتقدون بأنهم قادمون في نزهة إلى الأراضي الأردنية.
والكرامة كانت مزرعة فيها بئر ماء، وعندما وقعت نكبة عام 1948 أراد الملك عبدالله المؤسس أن تكون قرية للأشقاء الفلسطينيين القادمين إلى الأردن وسماها بالكرامة، وتدور الأيام "لتصبح الكرامة إسما على مسمى"، بمعنى كرامة الإنسان وكرامة الأردن من خلال دحره لهذا العدوان الفاضح.
ويسرد الفريق فهيد التفاصيل بقوله، بدأت المعركة في الساعة (5:30) صباحاً واشتركت فيها كافة الأسلحة بتنسيق عالي المستوى، وكانت المعركة حامية الوطيس، حيث تفاجأ العدو بقوة النيران ودقة الاصابات، وفي الساعة (11:30) طلب العدو وقف إطلاق النار، ورفض المغفور له بإذن الله هذا الطلب بقوله "لا وقف لإطلاق النار ما دام هناك جندي واحد على الأرض شرق النهر"، واستمر القتال لأنه كانت بالنسبة لإسرائيل عملية الانسحاب في النهار تعتبر قاتلة بالنسبة لهم وسيلاحقهم الجيش الأردني ويلحق بهم خسائر أكثر من التي وقعت، وفي الساعة (9:30) مساء بدأوا بعملية الانسحاب ولأول مرة يتركون آلياتهم ومعداتهم وقتلاهم وبعض الجرحى خلفهم لتكون نتيجة المعركة (87) شهيدا من الجيش الأردني إضافة إلى حوالي (150) جريحا، في حين كانت التقديرات (بعيداً عن لغة المبالغة) والتي جاءت من مصادر محايدة تقول إن إسرائيل خسرت (275) قتيلا، وحوالي (100) آلية ما بين دبابة ومدرعة، إضافة إلى (500) جريح.
وقال :ان هذه المعركة شكلت نقطة فاصلة وحاسمة في التاريخ العسكري الحديث، وأعتقد بأنها المعركة التي رفعت من معنويات الامة بكاملها، وحفزت مصر وسوريا لحرب عام 1973التي شهدناها، كما أعتقد أن معركة الكرامة لم تُعطَ ما تستحقه، كما أن الإعلاميين الأردنيين لم يكونوا "مهرة" في الاعلام في ذلك الوقت، فاختطفت هذه المعركة أجهزة إعلامية أخرى وبدأت تجيَر".
وأضاف:"من هنا أقول إنني لا أميز بين عربي وعربي في القتال ضد العدو المشترك، لكني أتحيز للحقيقة، والحقيقة يجب أن تكون هي العنوان الرئيسي الذي نخاطبه ونتعامل معه، فالحقيقة هي أن المعركة كانت جيشا لجيش وليس لها أي علاقة بحرب العصابات، وحتى حرب العصابات لم تكن بمفاهيمها العامة تنطبق على معركة الكرامة، ومع الأسف ذهب ضحايا نتيجة سوء التخطيط والدعاية التي اتبعت من قبل بعض الجهات في تلك المعركة".
وعن إصابته قال الفريق فاضل فهيد :"كنت مسؤولا عن قاطع مساند للواء حطين (دبابات)، ومسؤوليتي كانت من البحر الميت حتى جسر الملك حسين، وقد دخل الإسرائيليون من ثلاثة محاور؛ محور جسر الملك حسين، ومحور جسر الامير محمد (داميا)، ولم يتمكنوا من عبور محور سويمة، ولكنهم افتعلوا هجوما آخر جنوب البحر الميت، فإذا ما أخذنا الجبهة كاملةً فهي تتجاوز 100 كيلومتر عرض الجبهة التي دخلت منها إسرائيل إلى الأراضي الأردنية".
وأوضح :"في منطقتي التي كنت أخدم بها لم يستطيعوا العبور، ولكن استطاعوا العبور من جسر الملك حسين ودخلت كتيبة دبابات من خلال بلدة الشونة الجنوبية إلى الرامة، وهناك أرادوا الالتفاف علينا وحدثت المعركة فيما بعد، وأصيبت الدبابة التي كنت في داخلها واستشهد اثنان كانا معي هما (عواد حمد الله من سحاب، ومحمد عبدالله سالم من بني خالد)، وقذفت خارج الدبابة وأصبت إصابة بليغة، واستطعت أن ألملم نفسي وبحمد الله كتب لي عمر جديد، واستشهد في سريتي 18 شهيداً".
اللواء الركن المتقاعد شبيب ابو وندي: العدو ترك اسلحته للمرة الأولى ويستذكر اللواء الركن ابو وندي المعركة بقوله، في يوم الخميس 21 اذار 1968 دخل العدو على ثلاثة محاور، المحور الجنوبي على رأس البحر الميت، "جسر الامير عبدالله وهو اخر جسر على النهر- ناعور عمان"، والمحور الثاني القدس- اريحا- جسر الملك حسين الشونة- السلط- عمان، والمحور الثالث، نابلس- جسر داميا "او الامير محمد"- مثلث العارضة، او المثلث المصري- السلط- عمان، وهذه هي المحاور التي خطط العدو لمهاجمة الاردن من خلالها.
ويضيف، تعتبر معركة الكرامة نقطة تحول رئيس في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، ذلك أنها اول صدام بين الجيوش العربية والجيش الاسرائيلي تنتصر به القوات العربية لأول مرة، يترك فيها العدو الاسرائيلي لأول مرة اسلحته ومعداته في ساحة المعركة، ولأول مرة ايضا في حروبه يطلب وقف اطلاق النار ولم تتم الموافقة على طلبه، وكانت هذه ميزة اختصت بها معركة الكرامة، وكانت انطلاقة لرفع معنويات الشعب والجيش الاردني ومن ورائه الأمة العربية، وغيرت رأيهم بالجيش الاسرائيلي الذي زعم أنه لا يقهر وقهر وانهزم.
وفيما كان الهدف المعلن من المعركة، أن الاسرائيليين يريدون القضاء على الفدائيين في بلدة الكرامة وهم بحدود 300 عنصر، إلا أن الحقيقية على الارض كانت أمرا اخر مختلفا.
فقد اتضح من تجهيزات واستعدادات الجيش الاسرائيلي ان الهدف ليس الفدائيين بل السيطرة على مناطق حيوية وهامة في الاردن حيث كان عتادهم "فرقتين، فرقة مدرعة وأخرى آلية، إضافة الى فرقة مظليين و5 اسراب من الطائرات و5 كتائب مدفعية ثقيلة ومتوسطة وهذا بحجم سريتين".
ويستطرد اللواء الركن المتقاعد ابو وندي، كنت وقت المعركة ضابط ملاحظة "ضابط رصد مدفعية" على جسر الامير عبدالله، 300 متر عن النهر، "وكانت الموجة الاولى بدأت بتدفق معدات هندسية نحو الجسر وسيارات وقلابات تحمل اتربة وحجارة، فاستدركنا أن ذلك هو فرقة هندسة مزودة بتقنيات لمعرفة عمق مياه النهر لأغراض ردمه وإنشاء منطقة عبور او جسر، وكان معنا فصيل دبابات، بدأت بإطلاق النيران، وهذه المناطق كانت اهدافا مسجلة على الاجهزة العسكرية الاردنية، بحيث تقوم بالضرب بمجرد إعطاء الأمر.
وبعد مباغتتنا لهم بدأت قوات العدو تتفرق وظهرت عليها معالم الارتباك، واختفى بعضها على يسار الجسر، حيث احتمت بتلة حصينة معروفة لنا تتسع لسرية دبابات وسرية مشاة آلية، وكان واضحا ان الهجوم بدأ كما أبلغتنا الاستخبارات في حينه.
وقد كانت الاستخبارات دقيقة جدا في التوقيت، بعدها بدأت موجة هجمات بالطائرات والمدفعية، ولحسن الحظ لم تصب تلك الهجمات مركز الملاحظة، مشيرا الى أن الخنادق الاردنية كانت من غير تحصينات لأنها انشئت على عجل، وكانت مغطاة "بالقصيب والاتربة".
وتعرضنا لموجة ثانية من قصف الطائرات وكان هناك 3 دبابات اردنية في منطقتي، "ردمت اثنتان منها بالرمال وبقيت واحدة، وفي الاثناء تعطل جهاز اللاسلكي في السيارة وقد ظن زملاؤنا في مواقع المدافع اننا استشهدنا لأننا لم نراسلهم، لكننا تدبرنا أمرنا بجهاز آخر واستأنفنا التراسل".
وفي تلك الاثناء تجمعت نقطة طبية اسرائيلية عند حافة الجسر من الغرب، فيما كانت سيارات الإسعاف وطائرات الهيلوكبتر تنقل الجرحى والقتلى الاسرائيليين، وفي تمام الساعة الحادية عشرة احضر العدو تعزيزات من المشاة شمال غرب الجسر فكانت هدفا سهلا، وتم توليف المدفعية باتجاههم لكنهم تقهقروا باتجاه اريحا وعند هذا الحد حسمت المعركة في هذه الناحية، لكنها كانت مستمرة في المحور الثاني في الشونة الجنوبية، التي دخلتها قوة عسكرية اسرائيلية انقسمت الى 3 اقسام قسم دخلها، وآخر تمركز بالقرب منها، وانحرف قسم منه باتجاه الكرامة.
ويضيف اللواء الركن المتقاعد ابو وندي في استذكاره لتفاصيل معركة الكرامة بقوله:"" في المحور الثالث- جسر الامير عبدالله، حاولت قوات العدو 3 مرات من خلال فصيل دبابات مع المدفعية الثقيلة، كان الفدائيون في مواجهة قصف مدفعي وإنزال مظلي من خلفهم فاستشهد منهم حوالي 150 فدائيا وأسر مثلهم، مشيرا الى ان قواتنا اسكتت قوات العدو التي كانت في محيطها، واستشهد من قواتنا محمد هويمل الزبن والمرشح صالح صلاح".
وقال: "كان نجاح العدو مرهونا بالسيطرة على محورنا بين الكرامة والمثلث المصري، حيث جاءت القوات من طريق نابلس بنية الإمساك بمثلث المصري والراما، في محاولة من قائد العملية الاسرائيلية الالتقاء بقواته حيث كانت غايته منع قدوم اي قوات او نجدة اردنية، فاتجه للشمال بغية اللقاء مع جماعته وكان معه عربة مدرعة تحوي الخرائط دمرتها قذيفة من مدفعيتنا في عيرا كان لاستخباراتنا فضل كبير في ذلك"، مشيرا الى ان أهداف الاسرائيليين كانت سلسلة جبال مرتفعات البلقاء وناعور.
ولفت الى أحد الأسباب الرئيسة التي ادت الى النصر هو قيادة المغفور له بإذن الله جلالة الملك الحسين الذي كان حاضرا معنا ، والذي كان عاملا رئيسيا في رفع المعنويات، أما السبب الثاني فهو الخطة الدفاعية المحكمة والتصرف بالموارد الموجودة بحكمة، والإمساك بسلسلة المرتفعات، مشيرا الى "واجب قوات الحجاب لم يكن الاشتباك مع العدو بل مراقبة وتمرير المعلومات وعدم الدخول في معركة فاصلة، وجر العدو لمواقع الحرب".
وأشار الى السبب الثالث المتمثل بدقة معلومات الاستخبارات، وشجاعة الجندي الاردني "الذي لديه حقد دفين من معركة 67 التي خسرناها لعدم وجود غطاء جوي وعدم تكافؤ الاسلحة".
واكد أن :"جيشنا الاردني تربى على الرجولة وكان مؤسسا تأسيسا قويا، والجيش الان امتداد لذاك الجيش ورجالاته، وما تغير الآن هو التنظيم والتطور في الاسلحة".
اللواء الركن المتقاعد عيسى المجالي: كنت أفكر بعقلية العدو الاسرائيلي ضابط الاستخبارات خلال معركة الكرامة اللواء الركن المتقاعد عيسى المجالي قال:" كان دوري الاساسي متابعة ما يجري في اسرائيل، والحديث عن معركة الكرامة لا يختلف عن معركة باب الواد، فالهدف أخذ العبر والدروس".
واضاف أن :"معركة الكرامة جاءت بعد لعق القوات المسلحة العربية جراحها، فمعركة واحدة لا تغير التاريخ، والحرب هي سلسلة معارك، وعلى الجبهة الاردنية كنا في مرحلة اعادة تنظيم، وكنا نهيئ موقفا ملائما للدفاع عن النفس والتمسك بالأرض، والقتال حتى النهاية، وهذا ما تمثله العقيدة القتالية".
وقال :" المعنويات كانت مرتفعة، وطبيعة ارض المعركة ملائمة ما اعطانا بعض المميزات العسكرية، ولم يكن امامنا مجال للتراجع لأن تراجعنا يعني خسارة كل شيء". وأوضح "أنني كنت افكر بعقلية العدو الاسرائيلي ومعرفة تفكيره وقدراته، واستعداداته للحرب وهذا جزء من النجاح".
ولفت الى ان الفاصل الزمني بين حرب 67 ومعركة الكرامة هو 9 أشهر، كان الشعور بالهزيمة هو السائد حينها، والبيئة العملياتية لم تكن مناسبة لعمل عسكري، لكن العنجهية الاسرائيلية والاستهانة بالخصم من اكبر الاخطاء التي وقع فيها، فاحترام الخصم جزء من تفوقك عليه، مشيرا الى ان اسرائيل اضطرت للقتال في هذه المعركة على جبهة مفتوحة وليس لديها امكانية الالتفاف ولذلك فشلت.
وكضابط استخبارات أقول "لقد استطعنا نقل اسرائيل من مناطق معسكراتها الخلفية الى ان وصلت الى نهر الاردن (بعدد الدبابات وحجم قوتها)، مشيرا الى برقية الانذار التي كتبت عن قوات العدو، متى ستنطلق وعن الكثير من الحيثيات، والبرقية قام بتوقيعها الفريق علي القضاة".
واشار الى أن دور الاستخبارات هو ما وراء الحدود في أرض العدو، وفي معركة الكرامة ظهر معدن القيادة ومعدن الجندي الاردني الذي ادى دوره كما يجب، لافتا الى أمل راود الجميع في مطاردة العدو الى غرب النهر وتدمير اكبر ما يمكن من قواته، فأثبتت المعركة أن القائد الناجح هو من يستغل الموارد ويستفيد مما اتيح له من مصادر لتحقيق النجاح ويوظفها بصورة تخدم الحرب، فاستطعنا بما تيسر من قوة ان نخوض المعركة ونسجلها في التاريخ الاردني الناصع.
ويضيف اللواء الركن المتقاعد المجالي، "بالنسبة للكرامة كانت قرية بسيطة معظم بيوتها من طين ويقطنها مجموعة من الناس هربوا نتيجة القصف الاسرائيلي، ولم يبق فيها الا عناصر من الفدائيين وكانت القوات المسلحة تساندهم.
ويقول "الملك حسين كان يقول انا الفدائي الاول ولا يمكن الطلب من انسان ليس لديه امكانيات ان يقف امام دبابة، واذكر المرحوم غازي عربيات الذي خرج من القيادة وذهب لأرض المعركة الى عين حزير، وتقصى الموقع وتبين ان من لديه قلبا بقي هناك ومن ليس لديه ذهب، ويمكن القول ان هجوما مثل الهجوم الاسرائيلي لا يستطيع ان يقف امامه فدائي ليس لديه الا بندقية كلاشنكوف، ومن يكتب التاريخ يجب ان يكتب الوقائع كما جرت، وليس كل ما يقال صحيحا بخصوص الفدائيين، في معركة الكرامة بقي الجنود الاردنيون صامدون ولم يتخلوا عن مواقعهم".
وبالنسبة لطبوغرافية الارض، اشار المجالي الى أنها تعتبر عاملا اساسيا ومهما في الحرب، هناك مواقع حاكمة اذا تمسكت بها القوات المسلحة تستطيع ايقاع اكبر خسائر ممكنة في صفوف العدو، مشيرا الى ان القوات المسلحة كانت ممسكة بكل مواقعها الامامية بدءا من ام قيس الى خشم جعوان.
واستذكر دور المدفعية الاردنية التي قامت بعمل رائع في المعركة، واذكر ان بعض الاشخاص استشهد دهسا بدبابة اسرائيلية وهو متمسك بموقعه، داعيا الجميع الى قراءة التاريخ جيدا لأن فيه العبرة.
وقال: في الساعات الاولى لمعركة الكرامة كنت في القيادة العامة ارصد التحركات وازود القادة في الميدان بها، كنت ركن معلومات ومسؤولا عن حركة القوات المسلحة الاسرائيلية من مواقعها في بعض الالوية وكنا نتابع حركاتها ونعطي المعلومات أولا بأول لقواتنا، قصفنا الجسور كي لا يهرب العدو الذي يمتلك قدرات هائلة وكانت الغاية من قصفه ايقاع اكبر الخسائر بين صفوفه.
اللواء الركن عبدالسلام الحرازنة: معركة الكرامة مؤشر الانتصارات اللواء الركن عبدالسلام الحرازنة قال: تمثل منطقة غور الاردن ارض الرباط وهي من الاهمية الاستراتيجية والجغرافية بمكان ما جعلها محط انظار الاعداء الطامعين ما حدا بهم الى التخطيط المستمر والسعي المتواصل لترجمة اطماعهم والسعي لتنفيذ مخططاتهم واحاطة انفسهم بهالة أنهم يمتلكون القوة ويستطيعون فعل ما يشاؤون.
وبين أن معركة الكرامة هي بوابة المعارك ومؤشر الانتصارات التي ادخلت الامة بكاملها دائرة الفعل واخرجتها من آلامها وجراحها التي سببتها نكسة حزيران، وقد كان صمود الجيش العربي الهاشمي في معركة الكرامة بمثابة نقلة نوعية في تنامي الروح المعنوية العالية والقدرة القتالية النادرة التي يتمتع بها الجندي الاردني ،وهذا الصمود والنصر كانا منعطفا هاما في حياة الامة العربية تحطمت خلاله أسطورة التفوق الاسرائيلي، وأبرزت للعالم ان في هذا الوطن جيشاً يأبي الضيم ويذود عن حماه بالمهج والأرواح ويدافع عنه بكل ما أوتي من قوة.
وأضاف، لقد كانت عناصر الارادة والصبر والعزيمة وحب الشهادة ورد الاعتبار عوامل رئيسية في تحقيق الانتصار، فيما شكل عنصر القيادة على المستوى السياسي والعسكري علامة فارقة في إدارة المعركة من حيث قدرة القادة العسكريين على فهم الأهداف الاستراتيجية للقيادة السياسية، حيث كانت المرتفعات الشرقية تشكل خط الموت في السياسة الدفاعية الأردنية .
وقد اظهرت القوات المسلحة الأردنية قدرة فائقة في إدارة مراحل المعركة المختلفة وبما يحول دون قدرة العدو من تحقيق أهدافه، وتمكين القوات المسلحة من تنفيذ خططها المعدة للتصدي للعدوان الغاشم والمحافظة على قدسية وطهارة التراب الأردني.
القتال على مقترب جسر الملك حسين لقد كان هجوم العدو الرئيسي هنا موجها نحو الشونة الجنوبية وكانت قواته الرئيسة المخصصة للهجوم مركزة على هذا المحور الذي يمكن التحول منه الى بلدة الكرامة والرامة والكفرين جنوبا واستخدم العدو في هذه المعركة لواءين (لواء دروع ولواء آلي) تساندهما المدفعية والطائرات.
ففي صباح يوم الخميس 21 اذار دفع العدو بفئة دبابات لعبور الجسر واشتبكت مع قوات الحجاب القريبة من الجسر، الا ان قانصي الدروع تمكنوا من تدمير تلك الفئة، بعدها قام العدو بقصف مدفعي مستمر ودفع بمجموعات اخرى من دروعه ومشاته، وبعد قتال مرير استطاعت هذه القوة التغلب على قوات الحجاب ومن ثم تجاوزتها ووصلت الى مشارف بلدة الكرامة من الجهة الجنوبية والغربية، مدمرة جميع الابنية في اماكن تقدمها.
واستطاع العدو انزال الموجة الاولى من المظليين شرقي الكرامة، لكن هذه الموجة تكبدت خسائر كبيرة بالأرواح وتم إفشالها ما دفع العدو الى انزال موجة اخرى تمكنت من الوصول الى بلدة الكرامة، وبدأت بعمليات تدمير لبنايات البلدة واشتبكت مع بعض قواتنا المتواجدة هناك في قتال داخل المباني.
وفي هذه الاثناء استمر العدو بمحاولاته في الهجوم على بلدة الشونة الجنوبية، وكانت قواتنا تتصدى له في كل مرة وتوقع به المزيد من الخسائر، وعندما اشتدت ضراوة المعركة طلب العدو ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي وقف اطلاق النار، ولكن جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه امر باستمرار القتال حتى خروج اخر جندي اسرائيلي من ساحة المعركة، وحاول العدو الانسحاب إلا أن قواتنا تدخلت وحولته الى انسحاب غير منظم، فترك العدو عددا من آلياته وقتلاه في ارض المعركة .
لقتال على مقترب جسر الملك حسين ويقول اللواء الركن عبدالسلام الحرازنة: حاول العدو القيام بعملية عبور من هذا المقترب باتجاه ناعور - عمان، وحشد لهذا الواجب قوات مدرعة الا انه فشل، ومنذ البداية على هذا المحور لم تتمكن قواته من عبور النهر بعد ان دمرت معظم معدات التجسير التي حاول استخدامها في عملية العبور .
وفي محاولة يائسة من العدو لمعالجة الموقف قام بفصل مجموعة من قواته العاملة على مقترب وادي شعيب ودفعها الى مثلث الرامة خلف قوة الحجاب العاملة شرق الجسر لتحاصرها، الا انها وقعت في الحصار وتعرضت لقصف شديد ادى الى تدمير عدد كبير من الياتها.
وانتهى القتال على هذا المقترب بانسحاب فوضوي لقوات العدو كان للمدفعية الاردنية ونيران الدبابات واسلحة مقاومة الدروع الأثر الاكبر في ايقاف تقدم العدو وبالتالي دحره خائباً وخاسراً.
مقترب غور الصافي لقد حاول العدو تشتيت جهد القوات الاردنية وإرهاب سكان المنطقة وتدمير منشآتها ما حدا به الى الهجوم على مقترب غور الصافي برتل من دباباته ومشاته الآلية، ممهدا لذلك بحملة اعلامية نفسية ومستخدما المناشير التي كان يلقيها على السكان يدعوهم فيها الى الاستسلام وعدم المقاومة، كما قام بعمليات قصف جوي مكثف على قواتنا، الا ان كل ذلك قوبل بدفاع عنيف اجبره على الانسحاب.
وهكذا فقد فشل العدو تماما في هذه المعركة دون ان يحقق ايا من اهدافه على جميع المقتربات وخرج من هذه المعركة خاسرا ماديا ومعنويا خسارة لم يكن يتوقعها ، مشيرا الى أن الاوامر الاسرائيلية بالانسحاب صدرت حوالي الساعة 1500 بعد أن رفض جلالة المغفور له الملك الحسين القائد الاعلى للقوات المسلحة وقف اطلاق النار، حيث كان يشرف بنفسه على المعركة ويقودها ويبث روح الحماس بين جنوده وقواته، وكان بتصميمه وإرادته القوية مثلاً رائعاً تعلم منه الجميع كيف تكون الارادة الحرة القوية فوق كل اعتبار.
واستغرقت عملية الانسحاب تسع ساعات نظرا للصعوبة التي عاناها الاسرائيليون في التراجع بفعل القصف المركز من جانب قواتنا، بحسب ما يقول اللواء الركن الحرازنة.
نتائج المعركة مع انتهاء احداث المعركة، فشل العدو تماما في ان يحقق ايا من اهداف هذه العملية وعلى جميع المقتربات، وأثبت الجندي الاردني ان روح القتال لديه نابعة من التصميم على خوض معارك البطولة والكرامة، وفشل العدو في مخططاته التي بينت الوثائق التي تركها قادة العدو في ساحة القتال ان من أهدافها احتلال المرتفعات الشرقية ودعوة الصحفيين لتناول طعام الغداء فيها.
وجسدت هذه المعركة أهمية الارادة لدى الجندي العربي والتي كانت على قدر عال من القوة والتصميم، وساهمت بشكل فعال في حسم ونجاح المعركة، وأبرزت اهمية الاعداد المعنوي حيث كان هذا الاعداد على اكمل وجه، فمعنويات الجيش العربي كانت في اوجها حيث ترقبوا يوم الثأر والانتقام من عدوهم، وانتظروا ساعة الصفر (ساعة الكرامة) بفارغ الصبر للرد على الظلم والاستبداد .
وابرزت المعركة حسن التخطيط والتحضير والتنفيذ الجيد لدى الجيش العربي، وكذلك اهمية الاستخبارات اذ لم ينجح العدو بتحقيق عنصر المفاجأة نظرا لقوة الاستخبارات العسكرية الاردنية والتي كانت تراقب عن كثب وتبعث بالتقارير لذوي الاختصاص حيث تمحص وتحلل النتائج، فتنبأت بخبر العدوان من قبل اسرائيل ما اعطى فرصة للتجهيز والوقوف في وجهها.
كما ابرزت المعركة اهمية الاستخدام الصحيح للأرض حيث اجاد جنود الجيش العربي الاستخدام الجيد لطبيعة المنطقة وحسب السلاح الذي يجب ان يستخدم وامكانية التحصين والتستر الجيدين بعكس العدو الصهيوني الذي هاجم بشكل كثيف دون معرفة بطبيعة المنطقة، كما ابرزت المعركة التعاون بين صنوف الاسلحة المختلفة.
خسائر الطرفين: العدو: عدد القتلى 250 قتيلا وعدد الجرحى 450 جريحا وتدمير 88 آلية مختلفة تمكن العدو من اخلائها وشملت 27 دبابة و 18 ناقلة و 24 سيارة مسلحة و 19 سيارة شحن و20 دبابة وآلية مختلفة بقيت في ارض المعركة، واسقاط 7 طائرات مقاتلة.
وبالنسبة لقواتنا الباسلة بلغ عدد الشهداء 87 شهيدا وعدد الجرحى 108 وتدمير 13 دبابة و 39 آلية مختلفة.