ما لم يقله النحلاوي!

القليل من العسل والكثير من الشمع ، هما ما يمكن ان يوصف بهما ما قاله عبدالكريم النحلاوي عن الوحدة والانفصال بين مصر وسوريا ، فالشهود ليسوا جميعاً أحياء ومعظم اطراف القضية اصبحوا في ذمة التاريخ ، ولاننا غالبا ما نحب سماع ما نريد وما يغذي النوستالجيا السياسية التي ترسبت في أعماقنا: فان كل ما يقال عن سلبيات تلك الآونة لا نستقبله بارتياح ، رغم ان للتاريخ وجهين. كما كل واقعة في الحياة ، ففي اليوم الذي اعلن فيه انفصال سوريا عن مصر حيث لم تعد الاقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة.
حدث موقفان يختصران وجهي التاريخ ، الاول: اصرار الفنان السوري نذير نبعة الذي كان يعيش في مصر على الزواج من زميلته المصرية الفنانة شلبية رداً على الانفصال ، والموقف الآخر المضاد طلاق السيدة نادية ، وهي ليست شخصية عامة من ضابط سوري كان قد تزوجها في ايام الوحدة.
ان ما قاله النحلاوي ، فيه العسل واللسع معاً ، وطوبى للغة عبقرية كالعربية جعلت من اللسع نقيضاً للعسل رغم انه الضريبة التي لا بد منها ، وما لم يقله النحلاوي هو ذاته الذي لا يقوله جنرالات وساسة العرب عندما يتذكرون او يؤلفون مذكرات تعيد انتاج الماضي وفق متطلبات الراهن ، انهم قليلو الاهتمام بعلمي النفسي والاجتماع وربما بالثقافة كلها بعيداً عن الاختزالات السياحية والاعلامية لها ، والانفصال بين دمشق والقاهرة لم يكن فقط انقلابا عسكريا او خطوة سياسية ، بل له علاقة بالتكوين الاجتماعي والنفسي للبشر ، خصوصاً في عالمنا العربي الذي افتقد التجانس زمنا طويلا في كل شيء ، بدءاً من نظم الحكم حتى الاعراف والتقاليد ، رغم ان المرجعيات واحدة الى حد ما.
البعد غير السياسي وغير العسكري لاية وحدة او اي انفصال هو من صلب هذه المسألة واحيانا تتسبب اللهجات في سوء تفاهم مهما حاولنا انكار ذلك. وهذه مناسبة لكي اروي حادثة طريفة وقعت لي في العراق في سبعينات القرن الماضي ، فقد ذهبت الى محل خضروات لاشتري شيئاً لا اذكره وكان صاحب المحل منهمكا في الحسابات وابنه الذي يساعده منهمكاً في تناول طعامه ، عندئذ صاح الرجل بابنه قائلا له: كفى زَقْنبوت.
لكن الابن واصل التهام الطعام ، مما دفعني الى القول للرجل: دعه يواصل الزقنبوت. ولم اكن اعرف ان معنى هذه الكلمة هو السّم ، مما اثار غضب الاب والابن ، لكن سرعان ما تبدد الغضب وضحكا عندما عرفا أنني لست عراقيا،.
ولا نحتاج الى خيال جامح لكي نتصور سوء التفاهم الذي يحدث بسبب اختلاف اللهجات العربية خصوصاً في خمسينات القرن الماضي ، قبل ان يدخل التلفزيون الى كل بيت.
وقد يبدو هذا تبسيطا لقضية سياسية معقدة ، لكن الوحدة والانفصال ليسا زواجا او طلاقا بين رجل وامرأة ، انهما متعلقان بامزجة شعوب وذاكرات واشواق والوحدة التي تطبع في اسبوع لا يستغرق الانفصال بعدها اكثر من يومين ، لانها ليست قراراً من الاعلى ، واسوأ ما نجم عن تلك الوحدة الاشبه بجملة معترضة في تاريخ العرب الحديث ، هو فوبيا الانفصال ، اذ غالبا ما يتذكر الناس الاقبال المتحمس على تلك الوحدة والادبار المحيط عنها.
ان ما لم يقله النحلاوي هو بيت القصيد المسكوت عنه معرفيا ، وهو وثيق الصلة بعلمي النفسي والاجتماع. وما السياسة الا الاختزال المُخلّ له،.
الدستور