المنهج الإلهي في مواجهة المناهج البشرية الوضعية

تم نشره الأربعاء 03rd حزيران / يونيو 2020 11:24 مساءً
المنهج الإلهي في مواجهة المناهج البشرية الوضعية
د محمد إبراهيم محمد الحلواني


تتميز الثقافة الإسلامية عن غيرها من الثقافات بأنها ربانية المصدر خلافا للثقافات الأخرى التي تحددها العادات والتقاليد والمناهج التي يضعها المفكرون في البلدان التي لا تدين بالإسلام , كما تتميز هذه الثقافة بالشمول فهي ليست لجنس دون جنس أو طائفة دون طائفة , بل هي تشمل كل البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم , فالثقافة الإسلامية تسع البشرية كلها لأنها من لدن عليم خبير أما الثقافات البشرية البعيدة عن الوحي الإلهي فهي من وضع أناس غلَّبوا الجانب المادي على الجانب الروحي, ووجهوا أفكارهم ومناهجهم لطائفة دون طائفة ,مما أدي إلى العُقَد النفسية والصراعات الداخلية والخارجية وصدق الله العظيم إذ يقول : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)(طه:124), فلا خلاص للبشرية مما هي فيه إلا بالسير على منهج الله عز وجل كما أراده الله سبحانه وتعالي وكما يفهمه العلماء الراسخون لا كما يتأوَّله الجاهلون أو ينْتحِله المبطلون أو يَجنح إليه الغالون.
تعمير الكون وفقا للمنهج الإلهي هدف إسلامي أصيل.
لا يختلف أحد أن غاية المسلم في هذه الحياة تعمير الكون وفقا للمنهج الإلهي أداءاً لأمانة المسئولية التي حملها الإنسان وأبَتْ السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها , فالفوز برضا الله عز وجل هدف رئيسي للمسلم في هذه الحياة , ولابد لهذا الهدف من نية صادقة وهي اقتناع العقل وعزم القلب وانبعاث الهمة والعمل الذي هو التعبير الإيجابي عن القناعة العقائدية والفكرية , والدليل على ذلك قوله تعالي (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(فصلت:30), وقوله صلي الله عليه وسلم لسفيانَ بن عبد الله الثَّقفِي حينما سأله قائلا: قل لي قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال: ( قل آمنت بالله ثم استقم ), فالاستقامة يراد بها التطبيق العملي لشريعة الله وأحكام دينه القويم , ولهذا اختلف المنهج الإلهي عن نظرات الفلاسفة ومعارفهم الباردة العاجزة حيث لم يبق لنظرات الفلاسفة إلا بعض القيمة التاريخية التي لم تتجاوز الكتب والمكتبات ولم يكن لها نصيب يذكر من التغيير الاجتماعي.
عناية الإسلام بالجانبين المادي والروحي.
اهتم الإسلام بالجانب المادي والروحي على السواء, فلم يُهْمل جانبا على حساب جانب آخر , حيث نشأ الإسلام في الجزيرة العربية التي لا تعرف من الحضارة المادية إلا القليل الذي يهبط عليها من أصقاع الأرض , لم يشغل العرب أذهانهم في هذا الوقت بالعلوم التجريبية نظرا لانشغالهم بالأشعار والحروب القَبَلية , فلما جاء الإسلام بعث هذه العلوم المادية بعثا عنيفا متدفقا كأنما هي سَيْل ينحدر من ارتفاع شاهق يملأ السهول والوديان , وساهمت إنجازات العلماء المسلمين في مجال علوم الطبيعة إلى ازدهار المذهب التجريبي باعتراف الأوروبيين أنفسهم , ووفقا لهذا لا توجد عداوة حقيقية بين الإسلام والكفاح في هذه الأرض من خلال طلب العلم ونشره لتحقيق العدالة الاجتماعية في ظل المنهج الإسلامي والشريعة الإسلامية , لقد أثبت الواقع فشل النظم الوضعية والنظريات السياسية , حيث ساءت في ظلها الأحوال وفسدت الأوضاع وتزعزعت القيم والأخلاق , ولم تستطع هذه المذاهب والنظريات أن تحقق التقدم المنشود وأن تسير بالنهضة في طريقها الصحيح.
رفض الثقافة الإسلامية التبعية والانقياد للثقافات غير الإسلامية .
تحاول المجتمعات غير الإسلامية فرض ثقافاتها ومناهجها الفكرية على مجتمعاتنا الإسلامية,ولم تتوقف هذه الأمم يوما عن السعي لهذه الغاية بهدف القضاء على المنهج الرباني الأصيل المتمثل في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم وتحقيق الانقياد الكامل لهذه الأمم في الفكر والسياسة والاقتصاد , لكن الله عز وجل دعانا إلى التمسك بصراطه المستقيم قائلا : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(الأنعام: 153), حيث إن الانحراف عن منهجه عز وجل خَبْط في بيداء التيه وجَنْي للشقاء المر الذي هوت فيه الشعوب التي لا تدين بالإسلام , والرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه قد أمرنا بكل شيء يقربنا إلى الله عز وجل ونهانا عن كل شيء يبعدنا عنه قائلا: (مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَكُمُ اللهُ بِهِ، إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمُ اللهُ عَنْهُ، إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ .) فعباداتنا ومعاملاتنا يجب أن تكون مُحْكمة بحكم الشرع في أمره ونهيه جارية على نهجه موافقة لطريقته,وما سوى ذلك فمردود على صاحبه, هذا التشريع يربي أتباعه تربية فريدة , يصبغهم صبغة إسلامية لا نظير لها , فالمؤمن كامل الإيمان لا يقبل أن يذوب في بوْتقات شرقية أو غربية تصطدم مع منهجه الإلهي, لكن ضعيف الإيمان سرعان ما يذوب في هذه الثقافات,يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله : إن الأمة ستنحدر في سلوكها , والسلوك نتيجة الخلق ونتيجة المعرفة والثقافة , ومع هذا لم أر بحثا في تتبعنا لليهود والنصارى في تفكيرنا,في أخلاقنا,في أعمالنا, بل ببساطة انحدرنا وانتهى الأمر , استطعنا أن نقلدهم بانهيارهم , ولم نستطع أن نقلدهم بنهوضهم , وانتقلت إلينا علل التدين , كان مقتضي ذلك أن تنتقل إلينا من هذه الأقوام أسباب النهوض , أعتقد أن ما حدث اليوم في الأمة الإسلامية هو ما حصل في الأمم الأخرى تاريخيا , والعقاب الإلهي أن الله نزع قيادة البشرية من أيدي المتدينين ووضعها في أيدي العلمانيين .
المناهج البشرية لا تملك الأجوبة الكافية لمعضلات الوجود .
إن الثقافة الغربية قد عجزت عن الإجابة على الأسئلة المتعلقة بالمصير وأهداف الوجود ومسوغاته , وإن ظهور الحركات النازية والفاشية والعنصرية المتطرفة قد جاء نتيجة إبعاد الدين عن دائرة الاهتمام والتوجيه , والحضارة الغربية قد عجزت عن تلبية حاجات الإنسان الروحية والفطرية بسبب عنايتها بالجانب المادي وإهمالها للجانب الروحي , وهذا ما أكده الرئيس الأمريكي السابق نيكسون قائلا: لم يكونوا –أي مؤسسو أمريكا – بُلهاء أو مصلحين حمقي , ولكنهم آمنوا بالقيم الأخلاقية والروحية , وكان حَرِيا بهم أن تروعهم الفلسفة التي يلوح أنها على هذه الدرجة من الطغيان في العالم الرأسمالي اليوم , حيث لا يحرك الكثيرين إلا دوافع من القيم الأنانية والعلمانية والمادية , والمال عندهم هو الخير الوحيد , وقد أخفقت الثقافة الغربية اجتماعيا وأخلاقيا , حيث زادت أعداد الأطفال غير الشرعيين من أمهات مراهقات , وكثرت حالات الإجهاض , وأهمل الوالدان تربية أطفالهم , فخرجوا من أيديهم إلى غير رجعة , وانتشر القلق , وساد الاكتئاب, إضافة إلى التلوث البيئي الناجم عن التقدم الصناعي , وقد بينت بعض الدراسات ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض بمقدار (25-140)سم , وهذا سيؤدي إلى غمر المدن الساحلية والمناطق الزراعية المنخفضة , من خلال ما سبق فإنه يجب علينا أن نبني نموذجا حضاريا نظريا يتناسب مع عقيدتنا وتطلعاتنا وحاجاتنا المختلفة في إطار رؤية شاملة لا تفصل بين الدنيا والآخرة , وما فائدة الأبنية الشاهقة والمصانع الشامخة والشوارع النظيفة وخليفة الله على أرضه مقطوع الصلة بربه , ولهذا قام الرسول صلى الله عليه وسلم بهندسة الشخصية الإسلامية وفقا للمنهج الإلهي, لأن إغفال هذا المنهج الإلهي يجعل الإنسان عبدا للأشياء , وهذا هو المشاهد في المجتمعات التي أعرضت عن الحق , واتخذت من أفكار أناس مثلهم أساسا لحضارتهم كأنها وحي سماوي , وكيف يستقيم من يطبق منهج ناقص مثله ؟ اللهم ردنا إلى دينك ردا جميلا واجمع لنا خير الآخرة والأولى, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

د محمد إبراهيم محمد الحلواني
الأستاذ المشارك في قسم الحديث وعلومه في كلية العلوم الإسلامية جامعة المدينة العالمية



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات