أجندة الرئيس.. وطوق النجاة في تونس

تم نشره الخميس 09 حزيران / يونيو 2022 11:54 مساءً
أجندة الرئيس.. وطوق النجاة في تونس
نضال منصور

كنت في الطائرة المتجهة من جنيف إلى تونس حين بادرت بسؤال من يجلس بجانبي، بعد أن علمتُ أنه تونسي يقيم في زيورخ بسويسرا، عن تقييمه للأوضاع في بلاده الآن، فكانت إجابته أنها أفضل من العشرية التي أعقبت سقوط نظام الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي.

وبعد أن وصلت مطار قرطاج، وركبت في التاكسي لأصل إلى مكان إقامتي، عاودت طرح السؤال على السائق لأتعرف على مزاج الناس، وبوصلتهم، فسمعت نقدا قاسيا لتجربة التحول الديمقراطي، وإصرارا بذات الوقت على التمسك بمكتسبات الحقوق والحريات التي تحققت.

لا تحتاج إلى عناء كثير لتعرف أن الناس كانت غاضبة من الأحزاب التي تقاسمت السلطة بعد عام 2011، وحتى استحواذ الرئيس، قيس سعيد، على مقاليد السلطة في شهر يوليو من العام الماضي، ولا تسلم كل القوى السياسية وفي مقدمتها حركة النهضة، ونداء تونس من الاتهامات، ويمكن أن تسمع على لسان العامة أنهم كانوا سببا في "خراب" تونس، وتدهور وضعها الاقتصادي، وتراجع الوضع المعيشي للمجتمع، وأكثرهم تطرفا في أحكامه يصفونهم بـ "عصابة" تقاسمت موارد البلاد لمصالحها.

استثمر الرئيس قيس سعيد، الذي حظي بدعم شعبي لافت خلال الانتخابات، غضب الناس وتذمرهم وخروجهم بمظاهرات لم تخلُ من العنف ليضع يده على السلطة منفردا، وقد وجَدَت إجراءاته بعزل الحكومة ووقف العمل بالبرلمان تأييدا عند بعض القطاعات الشعبية، وحتى بعض الأحزاب التي كانت تُخاصم حركة النهضة أيدته، وحتى القوى المجتمعية الوازنة لم تعارض بحزم، وتركت الباب مواربا للرئيس للمرور، مُذكّرة أن الواقع القائم في ذلك الوقت ما كان يمكن أن يستمر، وأن الصراع السياسي على السلطة عطّل الأوضاع في البلاد، وعمّق أزماتها الاقتصادية.

كان يمكن للرئيس أن يلتقط "طوق النجاة" الذي ألقت به أحزاب، ومنظمات مدنية بأن تدعمه شريطة أن يعود للمسار الديمقراطي، ويمكن استعادة قصة رئيسة الحزب الدستوري الحر، عبير موسي، التي عرضت على رئيس الجمهورية أن تجمع له استقالات لغالبية أعضاء مجلس النواب، وبالتالي تُعطي شرعية دستورية لحل البرلمان، والدعوة إلى انتخابات جديدة مُبكرة.

ولكن واقع الحال أن سعيد لم يُصغِ لها، ولأحزاب كانت دعمت تدابيره في البدايات، وتحشدت جميعها الآن في الخندق المضاد له، بما فيها زعيمة الحزب الدستوري الحر، التي كانت، وما زالت استطلاعات الرأي تعطيها تقدما على جميع منافسيها.

المشهد في تونس الآن بعد ما يُقارب العام مختلف، والأزمات تتعمق سياسيا، واقتصاديا، رغم أن الرئيس ماضٍ دون تردد في خارطة الطريق التي أعلنها في شهر أكتوبر الماضي، ورغم أن العديد من مُناصريه انفضوا من حوله، ورغم التحفظات والنقد المسموع الذي يُعلن من الدول والمنظمات الدولية، وكان آخرها موقف "لجنة البندقية" التي اعتبرت مرسوم الرئيس لا يتوافق مع الدستور، وقالت: "ليس من الواقعي إجراء استفتاء دستوري ذي مصداقية في ظل غياب قواعد ناظمة، ومحددة"، وطالبت بإجراء انتخابات تشريعية في أقرب وقت ممكن، وقبل تنظيم استفتاء على الدستور، وإلغاء مرسوم تعديل الهيئة المستقلة للانتخاب.

وهو الأمر الذي أغضب الرئيس، وأثار حفيظته، فطالب وزير خارجيته بطرد أعضاء "لجنة البندقية" من تونس، واعتبر تدخلهم غير مقبول، وذهب إلى تقريعهم بالقول: "بلدنا ليست ضيعة، أو بستانا، فيتدخلوا فيه متى شاؤوا، وليسوا أوصياء علينا ولسنا بحاجة إلى مصاحبتهم أو مساعدتهم، وإن لزم الأمر سننسحب من هذه اللجنة".

موقف "لجنة البندقية: المعارض لخارطة الطريق التي يمضي في تنفيذها الرئيس سعيد مهم، فهذه اللجنة تُعد جهازا استشاريا لمجلس أوروبا، ورؤيتها ستكون مرجعا عند التعامل مع النظام التونسي الذي يحتاج المساندة من الاتحاد الأوروبي، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، ورأيها سيُأخذ به عند المؤسسات الائتمانية، وأيضا عند البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

بالتزامن مع موقف لجنة البندقية، وقبله، كانت تصريحات الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، خلال اجتماعاته مع الرئيس الإيطالي، بضرورة مساعدة تونس للخروج من المأزق، والعودة إلى الطريق الديمقراطي علامة فارقة.

فتدخُّل رئيس البلد الجار الأكثر تأثيرا في تونس لا يمكن غض النظر عن دلالاته وأبعاده السياسية، وتزيد الأهمية إذا اقترن بدعم إيطاليا، البلد المتاخم لتونس، وفسر صديق لي، عايش مرحلة الانقلاب الأبيض للرئيس بن علي على الرئيس الحبيب بورقيبة، بأنه تزامن مع تصريحات جزائرية داعمة لبن علي في ذلك الوقت، مُلمحا إلى ضرورة ربط الأمور بأطراف خارجية أبعد من البلدين، الجزائر، وإيطاليا تريد أن تكون تونس موطأ قدم لها في المنطقة.

يعتمد الرئيس التونسي على رصيده الشعبي، وكراهية الكثير من التونسيين لمن حكموا في العقد الماضي لتمرير أجندته السياسية، وهو يلجأ إلى مخاطبة الناس بشكل مباشر عبر منصات التواصل الاجتماعي دون اللجوء لوسائل الإعلام، لكن ما سمعته من تقييم وتحليل لقيادات سياسية وحقوقية يؤكد أن المسار الذي اختاره ليس سهلا أن يمر أو يحظى بالدعم الوطني والدولي، وأن على قيس سعيد أن يضع خطة بديلة إذا ما تعثرت خارطة الطريق التي أعلنها، ويُكافح بكل جهده لتصبح حقيقة قبل نهاية هذا العام.

أنجز الرئيس الخطوة الأولى في أجندته السياسية بإجراء ما أسماه "الاستشارة الإلكترونية"، وهو الآن على بُعد أيام من إعلان دستور الجمهورية التونسية الجديدة قُبيل أن ينتهي هذا الشهر، وسيُطرح للاستفتاء الشهر القادم بتاريخ 25 يوليو، بذكرى مرور عام على استحواذه على السلطة، وحتى هذه اللحظة لم يتسرب الكثير من الدستور الجديد، والأرجح وفق أكثر القراءات أنه سيكون نظاما رئاسيا، وسيُنهي النظام البرلماني الذي اعتمدته "ثورة الياسمين"، وهناك من يقول إن الانتخابات البرلمانية المحدد لها شهر ديسمبر من هذا العام لن تجري وفق قوائم حزبية، وربما يُستبدل هذا النظام ليُصبح الترشح، والانتخاب فرديا.

يقول الرئيس قيس سعيد في الترويج لأجندته السياسية عن نتائج "الاستشارة الإلكترونية" إنها أظهرت أن 82 بالمئة يفضلون النظام الرئاسي، و92 بالمئة يؤيدون سحب الثقة بالنواب، و89 بالمئة ليس لديهم الثقة بالقضاء، ويعتبر الدستور الذي يخضع للتعديل كان سيفجر تونس من الداخل، والمطلوب دستور يُعبر عن إرادة الشعب.

توسعت جبهة المعارضين للرئيس، وإجراءاته، وتزايد المناوئون له بعد قراره الأخير بعزل القضاة مستخدما اتهامات الفساد، وبعض الذين ساندوه غادروا عربته، وظهرت هذه المؤشرات مع بدء سلسلة الحوارات الوطنية، وإعلانات المقاطعة لها.

تعددت الأسماء التي تعارض الرئيس سعيد، وتعارض إجراءاته، والمشكلة ليست مع النهضة خصمه المعلن بالواجهة، فاليوم في تونس تشكل ما يُسمى حركة التيار الديمقراطي، جبهة الخلاص الوطني، ومواطنون ضد الانقلاب، وتوانسة من أجل الديمقراطية، واللقاء الوطني للإنقاذ، ومبادرة اللقاء من أجل تونس، ويسبقهم في الوزن والأهمية الاتحاد العام للشغل، القوة الوازنة التي أعلن أمينها العام، نور الدين الطبوبي، رفض الاستفتاء على مشروع الدستور، لأنه لا يستجيب لتطلعات القوى الوطنية، ولن يحل أزمة البلاد.

هذه الجبهة المعارضة توازيها أيضا جبهة حزبية لا تزال داعمة ومؤيدة، وتتقدمهم أهمية جمهور ما زال يؤمن أن الرئيس طريق الخلاص لهم، ومن الصعب الحكم، أو الحسم من هي الجبهة الأكثر تمثيلا للشعب التونسي؛ المعارضة، أو المؤيدة، فالمشهد في تونس مضطرب ومُحتقن، والمخاوف من تصادمات، ومكاسرات تُختبر في الشارع أمر مقلق، ويزيد الوضع بؤسا اقتصاد يتهاوى وأناس يطحنهم الفقر.

الأزمة تتصاعد، القضاة بدؤوا إضرابا، والرئيس يتوعدهم بالعقاب، والاتحاد العام للشغل دعا لإضراب في 16 من هذا الشهر، وزعيمة الحزب الدستوري الحر تحث أنصارها على التظاهر في 18 من هذا الشهر أيضا، وتعتبر ما يقوم به الرئيس استهزاء بالشعب، وتصفه بالدكتاتورية، وحركة النهضة في ذكرى تأسيسها الـ 41 تُعلن أنها ستتصدى ضمن أوسع ائتلاف سياسي للانقلاب على الدستور، ودوليا الناطق باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، يعتبر إقالة 57 قاضيا تقويضا للديمقراطية، ويقول إن واشنطن أبلغت المسؤولين التونسيين أهمية الضوابط، والتوازنات السياسية.

لا يُعرف ما هي الأوراق التي ما زالت في جعبة الرئيس، ويمكن أن يستخدمها في مواجهة خصومه السياسيين، وقضية الجهاز السري لحركة النهضة الذي اتُهم بتنفيذ اغتيالات سياسية في البلاد، وأثارها، وأصر عليها محامو الشهيدين (شكري بلعيد، ومحمد الإبراهمي) بعد اغتيالهما، ربما تكون هي الورقة الأولى، وتمخض عنها منع سفر رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، و34 شخصا آخر، وهو ملف قديم جديد، استُخدم لمقايضة النهضة سابقا، ووضعه الرئيس الأسبق، الباجي قايد السبسي، على الطاولة خلال التجاذبات مع النهضة، ثم أعاده إلى الأدراج لاحقا.

المؤكد أن الرئيس سعيد لن يستسلم ويتراجع عن خطواته، وكل يوم يلوح لمعارضيه بملفات فساد لحرقهم شعبيا، والمؤكد أيضا أن الرافضين لتوجهاته، ومساره السياسي لن يرفعوا الرايات البيضاء استسلاما، وخضوعا، ويراهنون على أن جبهة الداخل المعارضة تتوسع، وستجبر الرئيس على التراجع، والعودة إلى التشاركية السياسية للبحث عن بدائل الحد الأدنى التي يمكن أن يتوافق عليها المؤثرون في اللعبة السياسية، ويأملون أيضا ألا يتركهم الخارج وحيدين، وأنه ستأتي اللحظة التي سيتخلون فيها عن صمتهم، أو كلامهم على استحياء، وسيقولون له لا، ابحث عن طريق آخر أيها الرئيس.

تونس على مفترق طرق، وهذا العام حاسم في تاريخها، وما بين الأطلال على ثورة الياسمين والتبشير بجمهورية جديدة، يتجرع الشعب الألم ويصبح قيد التجارب ويتعرض أمانه الاجتماعي والمعيشي، والسياسي للتهديد.

المصدر : الحرة 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات