ليبيا و«السيناريو العراقي».. أية احتمالات؟!

إفلات القذافي وأنجاله من قبضة الثوار، وبقاء مناطق من ليبيا تحت سيطرته، وإصراره على «مواصلة الزحف ضد الجرذان».. جميعها عوامل تدفع بمراقبين إلى إجراء المقارنات والمقاربات ما بين تجربتي «ليبيا 2011» و»العراق 2003».. وصولاً للتحذير من مخاطر انزلاق ليبي إلى «سيناريو عراقي» يغرق البلاد في أتون الانقسام المناطقي والقبلي، مع كل ما يستتبعه ذلك ويستدرجه، من احتمالات اقتتال واحتراب أهليين.
من الناحية الشكلية، ثمة ما يغري بالمقارنة ويشجع عليها.. فالقوى الدولية التي طاردت صدام ونظامه بالأمس، هي ذات القوى الدولية التي تطارد معمر القذافي ونظامه اليوم.. وطرابلس الغرب كبغداد، سقطت سقوطاً ذريعاً وسريعاً، وتقريباً من دون مقاومة تذكر.. والقذافي كصدام حسين، لم يستسلم أو يهاجر، بل ما زال مصراً على مقاومة «الجرذان» وسحقهم.. ونجليه، خصوصاً سيف الإسلام وخميس، يذكران بقصي وعدي، وفيهما الكثير من الصلف والاعتداد بالنفس، النابع، من قناعتهما، بأن البلد برمته، الجمل ما جمل، هو إرث والدهما لهما، وهو يستحق أن يدافعا عنه أو يهلكا دونه.
ومثلما كان لصدام فريق من المؤيدين، بعض أركان نظامه وحزبه، وبيئة عشائرية/ مذهبية حاضنة، فإن للقذافي أيضاً، فريقا من المؤيدين، من أركان نظامه «وفرسان جماهيريته.. ولديه كصدام حسين، بيئة عشائرية/ مناطقية احتضنته طوال هذا الوقت، وقد يستمر الأمر زمناً أطول.. وفي التجربتين العراقية من قبل، والليبية من بعد، ثمة دور حاسم للمال، للكاش المحمّل في «التريللات» والمخزن في المستودعات، في شراء الذمم وتجنيد الناس والإنفاق على «المقاومة».. وفي بغداد كما طرابلس، نظام معزول دولياً وإقليمياً، ظهره للجدار، وليس أمامه سوى القبر أو السجن.
مثير للانطباع، أمر سقوط طرابلس بهذه الكيفية.. ومثير للانطباع أيضاً، أمر ذلك التنسيق المنظم بين «ثوار المدينة وخلاياها النائمة من جهة» وثوار الخارج، وداعميهم في «الأطلسي» من جهة ثانية.. لكن كل هذه «الحرفية» و»التقانة» في إنجاز معركة تحرير طرابلس، أصيبت بالعطب والتشويه، جراء هرب القذافي وإفلات ولديه محمد وسيف الإسلام، من «القبضة الثورية» بعد أن وقعوا فيها، وهي مسألة تثير حقاً، عشرات علامات الاستفهام، حول ما إذا كان في الأمر «مؤامرة» أو «صفقة» أو «فساد».
على أية حال، لا تتوقف المقارنة بين تجربتي ليبيا والعراق، مطولاً وعميقاً أمام اختلاف التجربتين والسياقين.. ففي العراق، حسمت القوات الأمريكية، وحلفائها على الأرض ومن السماء، المعركة ضد نظام الرئيس العراقي.. مئات ألوف الأطلسيين والمارينز، تمركزوا بآلياتهم وأسلحتهم على طول الأرض العراقية وعرضها.. الصورة في ليبيا، تبدو مختلفة، الثوار هم من أنجز المهمة على الأرض، وإن كانوا فعلوا ذلك بدعم من «النيتو» من السماء، ومن السماء فقط.
في العراق، تصرفت «المعارضة السابقة»، نظام اليوم، كما لو كانت «راكباً» في المقعد الخلفي لـ»الهامر».. ولطالما قرأنا وسمعنا الألوف من التعليقات الساخرة عن الذي جاءوا إلى السلطة في البلاد، على ظهر دبابة أمريكية.. عن ثوار ومعارضين لم «تتغبر» أحذيتهم.. في ليبيا، لم تكن المعارضة على هذه الصورة، فهي خرجت إلى الميدان في انتفاضات سلمية ومسلحة، ودفعت ألوف الشهداء، قبل أن «يتنحنح» الأطلسي.. في ليبيا، الثوار هم من دخل المدن وفتحها ودفعوا من حيواتهم وأرواحهم، أفدح الأثمان نظير تحريرها وحريتها.
في العراق، هناك قضية احتلال و»نظام مقاوم» و»صواريخ أطلقت على إسرائيل».. في ليبيا هناك «نظام أقرب للمسخرة»، نجح بامتياز في كسب رفض واحتقار الأغلبية الساحقة من الليبين والعرب.. ما يعد في غير صالح العقيد وأنجاله وفلول نظامه ومرتزقته.
في العراق، ثمة انقسام سني/ شيعي، أبقى لصدام حسين، بعض التأييد، لا حباً به، بل نكاية في بدائله ومعارضيه.. وفي العراق، اصطفت الحركات السلفية (الجهادية) موضوعياً في خندق صدام ضد الأمريكان والنظام الجديد.. الوضع في ليبيا يبدو مختلفاً تماماً، حتى أن «الجهاديين» مندمجين أكثر من غيرهم، في المعارك ضد القذافي، من دون أن يتوقفوا مطولاً أمام دور «النيتو» ومظلته.
لكل هذه الأسباب نقول: أن «ليبيا 2011» قد تسترجع بعض صور «عراق ما بعد 2003».. لكنها لن تعيد إنتاج فصول السيناريو العراقي الأكثر دموية ودراماتيكية.. خصوصاً إن تصرف «النيتو» بحكمة، وإن تصرف الثوار معه بحكمة أيضاً.. فإن أحس الليبيون بأن «النيتو» يعيد سيرة «الكولونيالية» و»الانتداب»، سقط «النيتو» وسقطت الثورة، ودخلنا أبعد وأعمق في السيناريو العراقي، وإن تصرف «النيتو» و»النظام الليبي الجديد» بطريقة مغايرة، تحفظ استقلال ليبيا وسيادتها وسلامة أرضها وثرواتها وحدة شعبها، أمكن سريعاً اجتياز هذا «السيناريو الأكثر رعباً».. المشتركات بين التجربتين لا تجعل انزلاق ليبيا للسيناريو العراقي أمراً محتماً.. والفوراق ما بين التجربتين، ترجح أن يكون لليبيا نموذجها الخاص في الانتقال إلى الديمقراطية، وفي مختلف الظروف والأحوال، فإن الكيفية التي سيتصرف بها كل من النظام الجديد و»النيتو»، ستكون حاسمة لجهة تقرير مستقبل ليبيا وتحديد وجهة تطور الأحداث فيها والسيناريو الذي ستسلكه.(الدستور)