أيّ أوراق للجزائر في أزمة بوراوي؟
لم يبقَ شيء لم يُقل عن الأزمة التي اندلعت فجأة بين الجزائر وفرنسا وتونس (قضية تستحق أن تُحوَّل إلى فيلم سينمائي).
الجزائر هي اللاعب الأول في هذه الأزمة. هي التي اختارت الهجوم في مقابل تونس المُحرَجة وفرنسا الباحثة عن التهدئة. فماذا تملك الجزائر من أوراق وإلى أيّ مدى يمكن أن تذهب في استعمالها؟
الجواب بسرعة: الجزائر تمتلك الكثير من الأوراق لكنها لن تستعمل أيًّا منها. ستكتفي بإجراءات مؤقتة حيال فرنسا، كالعادة، ولن تفعل شيئا حيال تونس. مع فرنسا ستُلغي زيارات أو لقاءات عمل كما فعلت مع الاجتماع الذي كان مقررا بين مدير المخابرات الخارجية اللواء مهنَّى جبار ونظيره الفرنسي بيرنار إيميي الخميس الماضي، لكن القطيعة عابرة ولا يمكن أن تكون أبدية.
كتبتُ الأسبوع الماضي في هذه المساحة أن العلاقات الجزائرية الفرنسية هشّة وسريعة الانكسار، وأن شهر العسل المزعوم بين البلدين يمكن أن ينسفه تصريح سياسي عابر أو مقال في صحيفة فرنسية. ها هي قضية أميرة بوراوي تختبر شهر العسل الذي يجري الحديث عنه منذ زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الجزائر الصيف الماضي.
التداخل العميق لتفاصيل العلاقات الجزائرية الفرنسية يجعل من المستحيل على أيٍّ من البلدين التفريط فيها. قد تغامر الجزائر بالتضحية بعلاقاتها مع أيّ دولة في العالم إلا فرنسا. والحال نفسه ينسحب على فرنسا في علاقاتها مع الجزائر.
بدا واضحا منذ لحظة انتشار خبر نجاح السيدة بوراوي في السفر إلى فرنسا، أن الجزائر لا تريد التصعيد. حرصا منها على عدم حرق كل الأوراق، فضّلت السلطة الجزائرية وأذرعها صبَّ جام غضبها على المخابرات الخارجية الفرنسية، متعمِّدة توفير الإليزيه ووزارة الخارجية. علما أن المخابرات الخارجية، في دولة مؤسسات كفرنسا، لا تتصرف في مثل هذه المواقف من دون الرجوع إلى الرئاسة ووزارة الخارجية. تدرك السلطات الجزائرية هذه الحقيقة، وتدرك أن المخابرات في هذه العمليات تلعب دور المرافق للجهات القنصلية، ورغم ذلك فضّلت التصويب نحوها حفاظا على مصالحها وصلاتها مع الدوائر السياسية، وحتى تنزع عن بوراوي أيَّ شرعية سياسية وتُبقيها في نظر الرأي العام مجرد عميلة لفرنسا.
لهذا لا غرابة أن يعود السفير الجزائري إلى عمله في باريس فور أن تهدأ هذه العاصفة العابرة، وتُستأنف العلاقات الثنائية في المدى المنظور.
فرنسا ذاتها لا يمكنها أن تضحي بعلاقاتها مع الجزائر. الذين يعرفون القليل عن المشهد السياسي الفرنسي يدركون بأن الجزائر جزء في هذا المشهد. الجزائر هي البلد الوحيد الذي يُعتبر شأنا داخليا في فرنسا، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وانتخابيا.
في أزمة بوراوي أدركت فرنسا الرسمية أن الغضب الجزائري عابر وبلا تأثير في العمق، فاختارت التعامل بذكاء وهدوء حتى لا يُحسب عليها أيّ موقف أو يضعها لاحقا في حرج. صمت الرئاسة والتحفظ الشديد للمتحدث باسم الخارجية، الذي فضّل الرد على أكثر من سؤال حول القضية بكلمات عامة لا ممسك فيها، يكرسان جنوح باريس نحو التهدئة، ويدلّان أيضا على أنها استلمت جيدا الرسالة الجزائرية التي تستثني ماكرون والقرار السياسي من حملة الغضب.
حيال تونس هناك سوابق في قضايا المعارضين الفارين تعود إلى ستينيات القرن الماضي، لكن البلدين أداراها بدون تشنج. هناك قضية المعارض الجزائري العقيد طاهر الزبيري الذي فرَّ عقب محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس هواري بومدين في كانون الأول (ديسمبر) 1967 عبر تونس ولم يسلّمه بورقيبة بل سهَّل سفره إلى سويسرا، دون أن يغضب بومدين. وهناك قضية الوزير الأول التونسي السابق محمد مزالي الذي هرب إلى الجزائر في أيلول (سبتمبر) 1986 فلم يسلِّمه الرئيس الشاذلي بن جديد، بل سهّل سفره إلى فرنسا دون أن يغضب بورقيبة. وحديثا هناك قضية المرشح لانتخابات الرئاسة في تونس نبيل القروي وشقيقه غازي، واعتقالهما في الجزائر صيف العام قبل الماضي، بالتزامن تقريبا مع اعتقال تونس المناضل الانفصالي الجزائري سليمان بوحفص. تونس سلَّمت بوحفص لكن الجزائر لم تسلّم القروي.
يتراكم في المخيال الشعبي الجزائري (وفي الذهنية السياسية الحاكمة) منذ عقود نوع من الشعور بالأبوية حيال تونس حتى لما كانت في أحسن أحوالها. اليوم وقد تراجعت سياسيا واقتصاديا، زادت حاجتها للجزائر وزاد في الجزائر الشعور بالأبوية. ضعف تونس الاقتصادي وحاجتها للمساعدة أوراق ثمينة في يد النظام الجزائري، لكنه لن يوظفها في قضية بوراوي، لأن استعمالها سلبا يعني المغامرة بخسارة تونس التي استثمر فيها النظام الجزائري كثيرا خلال السنتين الأخيرتين من أجل ضمّها إلى صفه. ويعرف هذا النظام أنه وسط القطيعة الحادة مع المغرب ووجود ليبيا على حافة الانهيار وحياد موريتانيا الممل، لا يمتلك ترف التضحية بتونس بعد أن ضمن ولاءها ووفاءها.
العلاقات الجزائرية مع تونس تمر بواحدة من أفضل فتراتها. ازدهرت اقتصاديا وتجاريا وأمنيا كما لم تفعل من قبل. عرف النظام الجزائري كيف يستغل ضعف حال تونس وقلة حيلة رئيسها وانعدام تجربته السياسية فألقى بثقله في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة عبر الدعم السياسي والمادي. ومن الواضح أن الرئيس سعيّد يعمل على رد الجميل، وتسليم المناضل الانفصالي سليمان بوحفص والتضييق على المناضل الحقوقي زكي حناش (منحته الأمم المتحدة حق اللجوء في تونس التي فرَّ إليها لكن السلطات هناك تمارس عليه تضييقا بعد أن عجزت عن تسليمه للجزائر خوفا من التبعات) يدخل ضمن سياق رد الجميل.
من أجل كل هذا من المستبعد أن تتأثر العلاقات بقضية بوراوي. الجزائر تعتبر مشكلتها مع المخابرات الفرنسية وليس مع ماكرون أو تونس. لهذا تفادى الخطاب الرسمي والإعلامي الجزائري أيَّ تصعيد مع تونس وبدا كثير الود حيالها.
حتى التقارير التي تحدثت عن أن الرئيس قيس سعيّد شخصيا أذِنَ بسفر بوراوي إلى فرنسا يبدو أنها فشلت في الإيقاع بعلاقات البلدين.. إلى الآن على الأقل.
القدس العربي