فيصل الحسيني… ذكرى عطرة في زمن لا وفاء فيه
قبل ثلاثة وعشرين عاما سافر فيصل الحسيني الى دولة الكويت في مهمة، ربما كانت من أصعب المهام التي واجهها في مسيرته الكفاحية السياسية. ذهب إلى هناك وفي صدره قلق خانق وعزم على وصل الوريد بالوريد وأمل أن يعود الدم العربي دفاقا في عروق فلسطين، عساها ترجع، كما كانت، قبل تلك الحرب اللعينة، صك غفران «لعرب أطاعوا رومهم، عرب وباعوا روحهم، عرب وضاعوا» وترجع هي الحلم والوليمة والسهر، وهي المنارة، والمئذنة، والتميمة، والقدر.
طار فيصل على جناحين من إيمان وفضيلة، ونام في ليلته الأخيرة كما تنام الملائكة: بسكون مطبوع على وجهه الوسيم وبسمة خفيفة تحرس شفتيه الجميلتين من العطش. كان رأسه متكئا على وسادة عالية بعض الشيء، وجسمه يملأ الفرشة بهدوء ويداه متشابكتان فوق صدره تحرسان قلبه من العدم. نام ولم يفق. رحل بصمت يليق بالمستحيل، وأخذ معه روح معشوقته الوحيدة. قضى وأورثنا، نحن الباقين في بقايا قدسه، معاني جديدة للخسارة وللحسرة وللحنين وبرهانا على كذبة الفلاسفة والمفكرين الكبيرة إذ قالوا: لكل قائد، مهما علا شأنه، يوجد خليفة وبديل؛ فالشعوب الحرة ولادة والمستقبل بأولئك كفيل.
ما زلت أذكر ذلك الصباح بتفاصيله الدقيقة. لم أصدق في البداية ما سمعته وكنت في طريقي، كما في كل صباح، الى مكتبي في مبنى «بيت الشرق» حيث كنت أعمل لسنين طويلة مع فيصل الحسيني.
أعرف أنني لست وحيدا في تذكر تفاصيل ذلك النهار الأسود، ومشاهد الجنازة التي انطلقت من رام الله نحو القدس. نهر هادر من البشر يسيرون على الأقدام وعلى وجوههم غير الحزن سكنت الدهشة الى جانب الخوف. كانت الدهشة تفتش عن الحكمة في موت الأمل، والخوف كان على مصير «البيت» بعد أن سقط سقفه وعماده. كانت فلسطين تبكي قائدا تفرد في تواضعه وفي صلابته، وحكيما آمن بقوة المنطق وبضرورة العمل الدؤوب اليومي؛ فبمواجهة قضايا الناس اليومية تبنى إرادات المناضلين الصحيحة، وبالتواجد في الميادين ومنها يزهر أمل الناس البسطاء وتُبعث، بعد كل معركة صغيرة كانت أم كبيرة، كرامات المضطهدين، ويقوى إيمانهم بضرورة التضحية من أجل المدينة والوطن. كان فيصل خياطا ماهرا يعرف كيف يحيك الهم اليومي ليصنع منه رداء واقيا للغد، وكيف يرتق خيمة القدس بأكف لا تخشى المخارز ولا الهزائم، وكيف تبقى منيعة.
كان مؤمنا بحاجتنا لقراءة التاريخ، تاريخ قضيتنا، كي نستطيع سبر مغاليق المستقبل، وكي نضع رؤانا المضمونة والسليمة من أجل ضمان تحرر شعبنا واستقلاله وإقامة دولته العصرية
كم نحن بحاجة في فلسطين لمراجعة حياة فيصل الحسيني، ولا أقل منها تداعيات رحيله، وذلك ليس فقط إكراما منا لسيرته اللافتة ولدوره المميز في بناء القدس الفلسطينية العصرية ولاهتمامه في صياغة الهوية المقدسية الواحدة الحرة، بل كي نستفيد وتستفيد المدينة من تجاربه وإرثه النضالي في استعادة مكانتها وفي ترميم لحمة مجتمعها الذي بات يعاني، في غياب قيادة مؤهلة وقادرة على صد الاختراقات الاسرائيلية الحاصلة على عدة جبهات في حياة أهل المدينة، من فقدان المناعة الوطنية والتشظي والانحرافات على أنواعها.
نحن نعرف كيف تتذكر بعض الشعوب تواريخ قادتها وكيف تحفظ المدن الكبيرة سيَر من حافظوا على أسوارها وعلى ينابيعها ودأبوا أن تبقى مياهها رقراقة صافية. أما في فلسطين فأنا أخشى أن البعض، وتحديدا في القدس، لا يعرفون كيف يحمون ذكرى من زرع «القافات» في صدر التاريخ كي تبقى مدينته/هم «قدسا» مضيئة ومشرفة في سماء الغرب والمشرق، ولا يصونون ود من كان يدفع بصدره ترسا كي لا تصاب «عذاراهم» بضيم من مغتصب، وكي لا يقطع سيف جلاد جديلة «المريمية».
في القدس، هكذا هي الدنيا، وعلى ما يبدو كما في سائر حواضر العرب، الوفاء هو قيمة سائلة، لها تاريخ نفاد مثل سائر السلع، وعند البعض قد يصير الوفاء، في أحسن الأحوال، استعارة جميلة معلقة على صدر بيت شعر أو على عجزه، وساكن في الأطلال أو في حكاية كحكاية السموأل بن عادياء.
ثلاثة وعشرون عاما مرت على رحيل من كانت القدس معبودته وكان هو حارسها الأمين، مرت من دون أن تُسمِع المدينة تنهيدة شوق أو تهليلة وجع. تمر الذكرى والقدس في غيبوبة والناس في عجقة أو نعاس وكأنها نهاية العالم. لا يوجد في شوارع المدينة أي شعار أو يافطة أو صورة تذكر برحيل فيصل الحسيني، وكأن المدينة لم تنم على جفونه دهرا وعمرا، حتى السرو على حوافي الطرقات كان كسولا يحاول أن يتفاهم مع الغبار على اقتسام الريح والندى.
حاولت أن أركن سيارتي بجانب مدخل بيت الشرق، الذي ما زال مغلقا بأمر حكومة إسرائيل منذ أكثر من عقدين، ولم أجد مكانا. فرحت، فقد افترضت أن جميع أصحاب تلك السيارات جاؤوا ليشاركوا في وقفة لإضاءة الشموع بذكرى رحيل فيصل الحسيني، كانت قد دعت إليها «اللجنة التحضيرية لإحياء ذكرى رحيل الشهيد فيصل الحسيني».
أوقفت سيارتي في مكان بعيد وقفلت راجعا باتجاه بيت الشرق. كان عدد المشاركين في الحدث قليلا بشكل ملحوظ، يتقدمهم عبد القادر نجل فيصل الحسيني والى جانبه بعض العاملين السابقين الى جانب فيصل في بيت الشرق، كما شارك النائبان أيمن عودة وأحمد الطيبي ووفد عن لجنة المبادرة الدرزية والمطران عطا الله حنا وعدد من الشخصيات المقدسية وممثلون عن القوى الوطنية في المدينة.
في الموقع تواجدت أعداد كبيرة من عناصر الشرطة الإسرائيلية وما يسمى بحرس الحدود الذين هاجموا، مع بداية الوقفة، المعتصمين وقاموا بتمزيق صور فيصل الحسيني التي كان يرفعها بعض المشاركين والمعلقة في المكان. أكد جميع المتحدثين في الاعتصام على أهمية الدور الذي قام به فيصل في بناء الوحدة المقدسية وتمتين لحمة المجتمع المقدسي ورسم عناصر الهوية المقدسية الفلسطينية، كما أكدوا أيضا على نجاحه في بناء معادلة قوة متكافئة مع الاحتلال كانت نتيجتها الفعلية حماية المدينة الشرقية وفرض حالة ردع متبادل مبنية على مقولته «قد لا نستطيع أن ننتصرعليكم ولكننا نستطيع أن نمنعكم من الانتصار علينا أو هزيمتنا».
في الواقع لن يكفي هذا المقال لاستعادة تفاصيل السياسة التي انتهجها فيصل الحسيني في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي وفي سبيل المحافظة على هوية المدينة الفلسطينية وفرضها كواقع، ليس فقط على إسرائيل، بل على سائر دول العالم. ولئن كتبت في الماضي عن عناصر كثيرة اعتمدها في معرض تثبيت مكانته كقائد حام للقدس ولمجتمعها ولمؤسساتها ولجميع فصائلها وشرائحها، تذكرت اليوم في حديثي مع عبد القادر الحسيني ثلاثة من معالم نهجه التي اتبعها وحاول أن ينشرها كدعائم للسياسة الفلسطينية ككل.
ففيصل كان مؤمنا بحاجتنا لقراءة التاريخ، تاريخ قضيتنا، كي نستطيع سبر مغاليق المستقبل وكي نضع رؤانا المضمونة والسليمة من أجل ضمان تحرر شعبنا واستقلاله وإقامة دولته العصرية. أما في مواجهته مع الاحتلال، فعلاوة على وعيه بضرورة اكتساب عناصر القوة المتاحة، وإيمانه بأن اختيار وسائل المواجهة الناجعة في الزمان والمكان المعينين هما من أهم عناصر تفادي الهزيمة والفشل. علاوة على ذلك، وتثبيتا له كان يكرر دوما في مواجهاته قولا مفاده «رأسي يمكنك أن تكسره لكنك لن تستطيع أن تحنيه»، على ما تعنيه هذه المقولة من مآلات ومن معان وتبعات عملية نضالية.
عندما أعلن نتنياهو، في العام 1999 حربه على بيت الشرق وأصدر أمره بإغلاق المؤسسة والمبنى، تصدى له فيصل الحسيني وتمترس جسديا في داخله. وتجندت الى جانبه القدس بمعظم مؤسساتها وقواها السياسية والدينية وقيادة منظمة التحرير طبعا. استمر صموده حتى أجبر، في النهاية، حكومة نتنياهو على التراجع عن أمرها، ليس قبل أن يعلن فيصل أمام العالم انه لن يستسلم وأنه سيدافع عن قلعته/ القدس/فلسطين حتى آخر الأمل ففي النهاية، هكذا كان يردد علنا «قيادة بلا بناية أفضل من قيادة بلا شعب». فالشعب الذي تقدمه فيصل بصدره هو الذي حمى بيت الشرق الذي كان قلب القدس وعنوان فلسطين السياسي في تلك السنوات؛ تلك كانت القدس التي ساندت فيصل في زمنها الذهبي. فبعد أن رحل، أصدرت حكومة إسرائيل أمرا جديدا قضى بإغلاقه. واغلق البيت فبدأت القدس تسير في مسيرة تيهها التي لم تنته بعد. لقد أغلقت البناية وبقي الشعب بلا قيادة والمدينة بلا شعب.
كنا نقف كمشة أشخاص، وراءنا شبح لبيت الشرق، وأمامنا عناصر الشرطة الاسرائيلية الذين ما زالوا يخافون من صورة فيصل ومن ذكراه. كنا كمشة توحدهم ذكرى ويجمعهم حنين وكان معنا فيصل الحسيني الذي تنفسه كل واحد منا على طريقته وأرجعه، بعد وقفة قصيرة على رصيف الذكريات، الى مكانه الدافئ بين حنايا الأضلع. تفرقنا وكان معظمنا يهز برأسه، وهي حركة العرب التي يعبرون فيها عن المجهول أو عن العجز والقصور … أو ربما هي الإشارة على أننا كنا نعرف ما المصيبة وما أسبابها، ولكن أحدا فينا لا يملك الحل أو لا يجرؤ، في هذا الزمن العاقر، أن يجاهر به.
كانت الشوارع القريبة من بيت الشرق تعج بالشباب الذين يملؤون المقاهي والمطاعم وبعضهم كان يتأهب لمشاهدة مسرحية «شجرة التين» للفنانة المبدعة رائدة طه، أو عرض للفنان المميز علاء أبو دياب.
وراءنا بقيت المأساة وشبح الأورينت هاوس. كان على جدرانه نقش بحروف باهتة تقول: عشرون عاما مرت فهلا تعلمنا أنه لا يوجد لبعض القادة خليفة أو بديل؟ وهلا اعترفنا أن مدينة ينام أهلها عن حقهم في العيش بكرامة وبهوية أصيلة سوف يأكلها الذئب وسينعق في خرائبها الغراب وسيحكم في شوارعها الغريب؟
إنها المأساة يا أخي…
كاتب فلسطيني
القدس العربي