أردوغان والسؤال القومي في تركيا
شهدت استراتيجية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نزوعا قوميا خلال الفترة الأخيرة، وعلى حافة المئوية الثانية للدولة التركية، فإن السؤال القومي كان إجباريا لا يمكن تجاوزه لأي أسئلة أخرى مهما كانت أهميتها مثل اللاجئين الذين يسعى البعض لربطهم بسؤال الاقتصاد، الذي يعد نفسه سؤالا مستحدثا إلى درجة كبيرة.
انتخابات الرئاسة التركية يمكن وصفها أنها جرت في الماضي، وأن ساحاتها كانت الذكريات، وحصة المستقبل داخلها متواضعة، فالأتراك لم يجعلوا الاقتصاد العامل الحاسم في قراراهم الانتخابي لأن الجيل الوسط الذي ما زال يحمل تأثيره عايش حقبة لم يكن الاقتصاد التركي يحمل أي مؤشرات ايجابية، وما زال كثير منهم، يتذكرون اسطنبول وهي مدينة بالغة القبح والقذارة، مدينة مقبضة ومثيرة للخوف، كما يمكن استنتاجه من توصيفات الروائي الاسباني الراحل قبل أيام أنطونيو جالا في روايته الشهيرة الوله التركي.
الازدهار الاقتصادي بقياسه على المدى الكامل لتجربة الجمهورية التركية هو الاستثناء، كما أنه لا يشكل الحماية المطلوبة للجمهورية نفسها، ولا على الإجابات التعسفية التي قدمتها الحقبة الأتاتوركية، وإن تكن مفهومة في سياقها التاريخي في مرحلة سابقة لخلق كتلة صلبة تتجمع حولها أمة مستحدثة تحتل مكان إمبراطورية ممتدة ومأزومة سابقة عليها، فهي اليوم تعاني كثيرا أمام واقع الديمقراطية الذي أخذ يرتكن، مثل أي ديمقراطية ناجحة، على تطوير الحكم المحلي في مقابل الدور المركزي للدولة.
اللاجئون أنفسهم لم يشكلوا عامل الخوف الضاغط، ففي النهاية توجد أمامهم عوائق ثقافية ولغوية كثيرة، وهم أنفسهم متمسكون بهوياتهم الخاصة، وكثيرٌ منهم يعتبرون تركيا ممرا لا مستقرا، فالمشكلة تكمن في الداخل، وفي اختلاف حول المدى الممكن لتعبير تركيا عن تنوعها، عن اعترافها به.
الظروف التركية المعقدة التي تحتاج إلى قراءات أفقية ورأسية في تركيبة المجتمع التركي، مشكلاته ومخاوفه، تُختزَل عند المتابعين العرب إلى مجرد هوية الحزب الذي يمثله الرئيس أردوغان
الرئيس أردوغان نفسه ينتمي إلى أقلية اللاز، الأقرب إلى الجورجيين من الأتراك، ولكنها عرقية صغيرة وغير مؤثرة، ولا تحمل بطبيعة الحال طموحات كبيرة ولا مظلوميات واضحة، ويستدعي ذلك، الكرد، بوصفهم يشكلون نسبة يمكن أن تصل إلى ربع سكان تركيا، مع وجود عمق واسع لتواجدهم في الدول المحيطة بتركيا.
للكرد تاريخ يمتد لآلاف السنين، مع كامل الأصول الثقافية مثل اللغة والتقاليد الخاصة، ومع ذلك، فإن الدستور التركي لا يعترف بوجود غير الأتراك على الأرض التركية، وذلك بالمعنى العرقي، وهو الذي، للمفارقة الصاخبة، يظهر في دول مثل أذربيجان وأوزبكستان وقرغيزستان بنفس الدرجة أو بما يفوق التركيبة التركية نفسها، ولكنه غير مرتبط بحالة إنكار للمكونات الأخرى مثلما يجري في تركيا، والكرد ليسوا وحدهم، فسكان الساحل التركي جرى تمويههم وكنسهم تحت سجادة القومية التركية وأصبح توصيف (روملي) يقبع في سوء الفهم والغموض.
على هذه الأرضية جرت الانتخابات التركية، نكون أتراكا أو لا نكون، الاقتصاد واللاجئون والعلاقات الإقليمية، هي أمور هامشية وتكتيكية، ولذلك أتت انعطافة أردوغان الكبيرة، تجاه السياق القومي، وبعد مبادرات عديدة تجاه الكرد وتفاؤل سابق، وطرح تركيا بوصفها قاطرة إقليمية طموحة توظف وضعها العسكري وقوتها الناعمة المستحدثة بعناية لتناسب الفضاء الإقليمي المستهدف، أصبحت الاستراتيجية تسعى إلى الحديث عن السؤال الوجودي في مرحلة بالغة الحساسية يتساءل الأتراك خلالها، وماذا بعد؟
هذه الظروف التركية المعقدة التي تحتاج إلى قراءات أفقية ورأسية في تركيبة المجتمع التركي، مشكلاته ومخاوفه، تختزل عند المتابعين العرب إلى مجرد هوية الحزب الذي يمثله الرئيس التركي، العدالة والتنمية، ولمواقفه من الأزمات العربية في سوريا والعراق، في حماس ساذج وغير عقلاني أو مبرر، ليختزل صراع هوية تركيا بين أردوغان وكليشتدار إلى ما يشبه المباراة بين ريال مدريد وبرشلونة، في تجلٍ جديد لعقلية الأبيض والأسود، أو لنا الصدر دون العالمين أو القبر.
في المحصلة، تمكن أردوغان من محاصرة كليشتدار أوغلو في الزاوية الصعبة، وتركه يتحدث في التفاصيل بينما يرتب أوراقه على السؤال التركي الجوهري، ويعود خطوات عن التزاماته بتمثيل التيار الإسلامي من غير أن يفارقه مبقيا على إعادة الهوية التركية إلى فضائها الإسلامي بصورة تدريجية بعيدة عن الصدمة، منطلقا إلى نسخة جديدة من العلمانية، وبذلك، فإن الخيار الأساسي أمام الدول المجاورة لتركيا هو التركيز على التحولات التي ستحدث في رؤية الأتراك لذواتهم لأنها ستحدد العلاقة، أما محاولة الضغط على التفاصيل، مثل الحديث عن الصراعات الحدودية أو الأوضاع الاقتصادية أو التواجد الدولي، فهو سلوك يشبه محاولة الحوار مع شخص حول ذوقه في الملابس بينما هو ليس متأكدا من صحته ويحتاج لإجراء العديد من الفحوصات العاجلة.
الانتخابات التركية تبقى انتخابات تركية، هذه ليست عبارة دائرة ولا تعريفا للماء بالماء، ولكنها ببساطة تعني أن الانتخابات تحمل خصوصية تركية لا يمكن تجاهلها، وأن فهم الحدث التركي لا يمكن أن يتأتى من قراءة الغضب الشعبي في الاقتصاد أو تجاه قضايا اللاجئين، ولكنه يحتاج إلى قراءة دولة استحدثت في اللحظات الأخيرة بحيث لا تكون كبيرة بما يكفي، ولا صغيرة بما يجعلها أرضا للقلق والصراع الدولي الواسع، وهذه الدولة تسأل نفسها اليوم، عن تسوية ميراثها التاريخي، والتكلفة المرتبطة بذلك، والأفق الممكن أمامها.
هل أجاب أردوغان عن سؤال القومية التركية؟ في الحقيقة لم يتمكن هو من الإجابة عليه، ولكن منافسيه أيضا لم يتمكنوا من ذلك، وكان الذكي منه، أنه تمكن من وضع السؤال ومركزته مرة أخرى، والتخلص من أسئلة أخرى كان يسعى لإجابتها على طريقته، بينما استغرق الآخرون في التفاصيل غير المنتجة.
كاتب أردني
القدس العربي