الكاتب في عزلته وصخبه!

تم نشره الأحد 04 حزيران / يونيو 2023 12:29 صباحاً
الكاتب في عزلته وصخبه!
سعيد خطيبي

يحتمي الكاتب بعزلته. يعود إليها كلما شعر بالحاجة إلى تسويد ورقة، يحتاج أن يخلو إلى نفسه، أن يتجاوز الصخب الذي يلون يومياته. أن يستقر في مكان لا تُخالطه أصوات سوى أصوات دواخله، فيشرع في الكتابة مثل متعبد في دير يخفت فيه العجيج. قد يحتاج الكاتب إلى فكرة ينطلق منها في عمله، إلى ورق وقلم أو إلى لابتوب، إلى مراجع أو صور، لكن الشيء الآخر الذي يهمه من غير أن يصرح به، هو العزلة. اعتزال الحياة الممتلئة بالبشر وخطواتهم، أن يصنع حجاباً بينه وبين الآخرين في لحظة انهماكه على الورق، ألا يسمع سوى أنفاسه، وألا يوقظ سوى الأصوات التي تسكن عقله، فالكتابة مغامرة فردية، ومهما كانت الحاجة إلى الآخرين، إلى الإصغاء إليهم والتحاور معهم، فهي حاجة أولية، تنقضي مباشرة عند بلوغ لحظة التدوين، والانتقال من التأمل والتفكير إلى تسويد الورق. لكن العزلة وعلى الرغم مما يبدو أنها شرط بسيط، فهي تكاد تصير من الأمنيات الصعبة في هذا العالم المتحول الذي نحيا فيه، تصير العودة إلى الذات من أعسر الأمور التي يحن إليها الكاتب.
يبحث الكاتب عن غرفة له، يوصد بابها من أجل أن يتفرغ للكتابة، لكن لا باب يوصد في الجزائر، فكل الأبواب مفتوحة، على الصخب أو على النميمة، لا جدران بوسعها أن تقف حاجزاً أمام الألسنة أو تلصص الأذان، فكل شخص لا يرضيه شيء أكثر من التلصص على الآخر، إنها حياة مشرعة على الهواء الطلق. في وضع كهذا تصير الكتابة في عزلة ترفاً، والصخب هو العادة. يظن البعض أن الكتابة في مقهى أو في مكان عامٍ من شأنها أن تتيح لهم النظر لما يجري من حولهم، وبالتالي التقاط الأصوات والحكايات، لكنها فكرة سرعان ما تنفي نفسها، وتتحول إلى نقيضها، فالكتابة لا تقبل ضرة لها. هي فعل أناني، لا تقبل سوى الفردانية، والابتعاد خطوة أو أكثر عن وجوه وأفواه الآخرين. الكاتب يلتمس حقه في العزلة كي يصير هو نفسه حقاً مشاعاً. فبمجرد أن يرسل المخطوطة إلى النشر، ثم تخرج من المطبعة، يتحول ذلك النص، الذي قضى معه أشهراً أو سنوات في عزلة، يصير ملكاً للعام، يُقرأ في الصخب، ويُنزع منه الحق في الوحدة. مع أن الأدب هو هكذا في كل الحالات: يبدأ من العزلة كي يسقط لا محالة في أيادي الصخب. هكذا جرت العادة. عدا أن في الجزائر صارت الكتابة تنطلق من الصخب وتعود إليه. فليس للكاتب الجزائري من حظوة قصد اعتزال الآخرين، فهو في الغالب يُصارع حياة يومية يشاركه فيها الغير، في شقة ضيقة يتقاسمها مع الأهل، أو مكتب عمل لا يستطيع أن يسرق منه ساعات للانهماك في إتمام ما يكتب. إنه غير قادر على توفير الشرط الأول من شروط الكتابة، فكيف نتوقع منه نصاً مقنعاً؟ إنه كاتب يعيش في استعجال، في الركض خلف اللحظة التي تمور فيها أفكاره، في صدام مع ظروف مهيئة للقيام بالوظائف كلها، عدا الكتابة.

كل نص لا بد أن تكون له لحظة ميلاد. هي اللحظة التي تصطف فيها الجمل الأولى. من المفترض أن تكون لحظات حميمة، لا تقل شأنا عن لحظة ميلاد إنسان. في خشوع وتأمل وفرح وقلق، مع ما يُصاحبها من أحاسيس متداخلة في ما بينها.

كل نص لا بد أن تكون له لحظة ميلاد. هي اللحظة التي تصطف فيها الجمل الأولى. من المفترض أن تكون لحظات حميمة، لا تقل شأنا عن لحظة ميلاد إنسان. في خشوع وتأمل وفرح وقلق، مع ما يُصاحبها من أحاسيس متداخلة في ما بينها. عدا أن الكاتب في الجزائر لا يملك ترف الاحتفال بلحظة ميلاد نص. فقد تُداهمه تلك اللحظة وهو يجري خلف حافلة أو قطار أو يتزاحم مع آخرين في تاكسي، أي دائماً في أمكنة مكتظة. لا يملك حظاً في الاختلاء بالذات والفرح بالدقائق الأولى التي يفترض أن يؤرخ فيها لميلاد نص جديد، بل إنه في لهث دائم خلف مشاغل الحياة، في تعب ومشقة من أجل الخلاص من الصخب الذي يحيط به، من غير أن يفلح في مسعاه. حين يجلس كاتب غربي إلى كرسي وأمام مكتب، قبل أن يشرع في الكتابة، فهو يمارس طقساً عادياً من طقوس الأدب، يُلامس الورق أو اللابتوب مثل من يُلامس خد حبيب، قد يتكلم إلى أغراضه، ويهيئها إلى ما هو مقبل. يعيش تلك اللحظات مثل من يعيش ساعات الحب الأولى ورجفتها، بينما في الجزائر يتحول ذلك الطقس ـ العادي في مكان آخر ـ إلى حلم يصعب الوصول إليه، فالتهيؤ للعزلة يُشبه التهيؤ للعراك أو لمشاجرة في حي شعبي، لأن العزلة تفرض عليه التخلص من أناس من حوله، وبالتالي التخاصم معهم. وفي المحصلة يجد نفسه قد فقد التركيز والرغبة في الكتابة في حال ما توفرت له العزلة، لأن بلوغها كلفه خسران أشخاص يفترض أنهم مقربون إليه.
في العادة يتجمع الناس من أجل الفرح، في حضور حفل أو سهرة، من أجل الرقص أو الشرب، لكن الكتابة لها حفلة أخرى، تستدعي إفراغ المكان من كل زواره، أن تكون الحفلة دون جمهور، وأن يطلع الصخب من وجدان الكاتب وحده، فسعادة الكتابة في وحدتها، وفي تطرفها في علاقتها بالمكان، أو بالأحرى في اختيارها للامكان، حيث لا يسمع الكاتب سوى أشباحه ولا يرى سوى صورته في انعكاسها وانكسارها أمامه. في العزلة تكتمل بهجة الكاتب، بينما في الجزائر لا يحتمل المرء أن ينظر إلى آخر وهو يُدافع عن حقه في العزلة، قد يظن به سوءاً، أن انعزاله من علامات التوحد، أو أنه مُصاب بمرض نفسي آخر، فليس من السهل إقناع الآخرين بحقنا في المكوث إلى هامش صامت، وليس من السهل عليهم تقبل شروط الكتابة. بالنسبة لهم كل إنسان إنما هو كائن اجتماعي، وإن أراد غير ذلك فإنه يود تغيير شروط الحياة المشتركة، في هذا النسق القائم على سوء فهم حرفة الكتابة، وفي خضم الصخب الذي يحيط بنا من جميع الجوانب، يضطر الكاتب إلى التأقلم مع حاله، غير قادر على توفير نقطة الانطلاق في الكتابة، عاجزاً عن الدفاع عن حقه في العزلة، متقبلاً الصخب من كل جانب، وهو يمني نفسه ـ مجازاً ـ أن كتابته سوف تنضج على نار الصخب، ساخراً ممن يفضل العزلة، لأنه لا يستطيع التشبه به.

روائي جزائري

القدس العربي 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات