خصوصية التدهور البيئي في العراق
إذا كان التغير المناخي قد بات هاجسا مخيفا يُهدد العالم من ناحيتي الجفاف والفيضانات وانعكاساتهما، فإن مأساة بعض الدول، كالعراق، أكثر تعقيدا من ذلك، مما يجعله يحتل، بجدارة لا يُحسد عليها، المرتبة الخامسة، في قائمة الدول التي تعاني من التغير المناخي وانعكاساته معا.
إن ما يواجهه العراق متشابك ويتطلب إيجاد حل يضم عدة مستويات من الحلول في آن واحد. فهو من الدول التي تعيش أزمات تغير المناخ وفقدان الطبيعة والتلوث التي تتفق كل المنظمات الدولية العاملة في مجال حماية البيئة على تصنيفها بأنها من أكبر التحديات التي تواجه حقوق الإنسان في عصرنا، مما يؤجج الصراعات ويضّخمها، ويؤدي إلى تفاقم التوتر والتفاوت الهيكلي، ويساهم في تخلف الناس عن الركب ومعاناتهم من تزايد الظلم.
تنطبق هذه الصورة العامة على العراق بالإضافة إلى العوامل الأخرى التي تمنحه خصوصية كارثية جراء ما عاشه، في العقود الأخيرة، من حروب وغزو واحتلال.
فبالإمكان تلخيص التفاصيل، التي تجعل التأثير البيئي، مماثلا لبقية دول العالم، مروره بأسوأ فترة جفاف نتيجة الانخفاض المطرد في هطول الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، وتزامن هذا التغير مع تحكم دول الجوار بكميات المياه المغذية لنهري دجلة والفرات، بحيث لم يعد لتسمية بلاد الرافدين معنى حقيقي بل باتت التسمية نوعا من النوستالجيا لزمن يُستعاد من باب التحسر عليه.
أدت انعكاسات النقص المستمر في المياه وتهديد الجفاف لشريان الحياة الزراعية إلى زيادة الضغط على الموارد الأساسية وتقليل فرص كسب العيش في القطاعات التي كانت مزدهرة في السابق، وأولها الزراعة وانخفاض المُنتج الزراعي بأنواعه. هناك أيضا مشكلة تلوث المياه حيث يتم ضخ مياه الصرف الصحي الخام، والنفايات الطبية، والصناعية في الأنهار.
أما خصوصية الكارثة البيئية، بقيمتها المُضافة إلى الكارثة العامة، فهي ناتجة أولا عن كون العراق واحدا من أكبر منتجي النفط في العالم، وأنه يحرق ما قيمته 3.8 مليار دولار من الغاز الطبيعي سنويًا ويطلق جميع أنواع المواد الكيميائية الضارة بالصحة في الهواء، بدلا من استثماره والتوقف عن استيراده لقاء أموال طائلة. ويأتي الفشل الذريع في تزويد البلد بالكهرباء والاعتماد على المولدات الكهربائية الخاصة وما تبثه من روائح خانقة ليضيف إلى التلوث الجوي سموما إضافية.
أدت انعكاسات النقص المستمر في المياه وتهديد الجفاف لشريان الحياة الزراعية إلى زيادة الضغط على الموارد الأساسية وتقليل فرص كسب العيش في القطاعات التي كانت مزدهرة في السابق
أما منبع خصوصية الكارثة الثاني فهو الناتج عن التأثير القاتل بعيد المدى لاستخدام قوات الغزو والاحتلال الأمريكي ـ البريطاني لقذائف اليورانيوم المنضب التي رُشت على البلد، خلال فترة التسعينيات، ثم في عام 2003 والسنوات التالية، على جنوب العراق وخاصة على الفلوجة مدينة المقاومة. فنسبة حالات السرطان والتشوهات الخلقية في مدينة الفلوجة التي تعرضت للقصف الأمريكي عام 2004 تفوق النسبة في مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين اللتين ألقيت عليهما قنابل ذرية في الحرب العالمية الثانية. ولاتزال الولايات المتحدة الأمريكية مصرة على تغليف ما يسببه اليورانيوم المنضب بالسرية والكتمان وإصدار التقارير المضللة تجنبا للمسؤولية القانونية حول زيادة التشوهات الخلقية والإجهاض والولادة المبكرة والسرطان بين العراقيين. الوضع الذي أشار اليه تقرير أصدره الاتحاد الأوربي بعنوان « أوكرانيا والآخرون: الآثار البيئية للحرب» في 22 فبراير/ شباط وجاء فيه « هناك احتمال من شأنه أن يساعد أيضًا في تفسير سبب تسجيل العراق، وهو بلد متورط في الصراع، بعضًا من أعلى معدلات الإصابة بسرطان الدم والأورام اللمفاوية في العالم في السنوات الأخيرة».
وتكمن خصوصية الكارثة بالعراق ثالثا في القصف الأمريكي الذي طال البنية التحتية والمدن منذ التسعينيات. إذ سبب اندلاع النيران في البنى التحتية العسكرية والمدنية، انتشار سحب الدخان الكثيفة المكونة من غازات وجزيئات سامة فوق المناطق السكنية. كما أدى استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة إلى تلوث مواد البناء بما في ذلك الأسبستوس والمعادن ومنتجات الاحتراق والنفايات التي تؤدي إلى تلوث التربة والمياه الجوفية وبالتالي إلى مشاكل صحية للإنسان. وبالإمكان اعتبار مدينة الموصل نموذجا حيا للتلوث البيئي جراء القصف، حيث استخدمت القوات الأمريكية القاذفة الجوية بي 52، التي تم تحديثها لتُزود بالصواريخ والقنابل الموجهة بالليزر، وطائرات أف 16 وأف-أي 18، وطائرات ريبر بدون طيار، بالإضافة الى مروحيات الأباتشي قاذفة القنابل. وإذا كان تنظيم داعش الإرهابي قد زرع الألغام، ولا يزال بعضها مدفونا تحت الركام، فان أمريكا رمت على المدينة «قنابل تزن الواحدة 500 رطل، تخترق الأرض لمسافة 15 مترا أو أكثر» حسب مدير برنامج الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام.
وسبب الخصوصية الرابعة للكارثة هو حرق المُخّلفات الأمريكية حين أعلنت قيادة الجيش سحب قواتها وإغلاق معسكراتها في عام 2011. إذ قامت قوات الاحتلال بحرق مخلفاتها في حفر مكشوفة في 52 قاعدة عسكرية. من بين النفايات التي حُرقت: «المواد الكيميائية والطلاء والنفايات الطبية والبشرية وصناديق المعادن / الألومنيوم والذخائر وغيرها من الذخائر غير المنفجرة ومنتجات البترول ومواد التشحيم والبلاستيك والمطاط والخشب والأغذية الفاسدة. ويضاف الوقود النفاث كمعجل» وقد حُرق، أواخر صيف 2008، في قاعدة بلد لوحدها 147 طنا من النفايات في اليوم. وعلى الرغم من تصريح الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنه يعتقد «أن السموم الموجودة في الدخان الناتجة عن حرق النفايات في المنشآت العسكرية الأمريكية في العراق، يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في التسبب في سرطان قدامى المحاربين» وذلك بعد إصابة ابنه الذي قاتل في العراق بالسرطان، إلا أن ذلك الاعتراف بالتأثير القاتل بقي خاصا لرعاية « المحاربين» الأمريكيين بالعراق مقابل تعتيم حكومي أمريكي ـ عراقي شامل على الضحايا العراقيين.
لا تقتصر سياسة التعتيم أو التجاهل على الإدارة الأمريكية والحكومة العراقية بل تمتد إلى مبادرات الأمم المتحدة البيئية وآخرها مبادرة الاستراتيجية الشاملة للبرنامج العالمي للعدالة البيئية وجوهرها مبدأ أن لجميع الناس الحق في الحماية من التلوث البيئي، والعيش والتمتع ببيئة نظيفة وصحية. وهي، كما تبدو، مبادرة جيدة، إلا أنها كما معظم مبادرات الأمم المتحدة مكبلة بعموميتّها (كما وجبة ماكدونالد السريعة) ووجوب تعاونها مع الحكومات المحلية، والدول الممولة، مما يستدعي عدم مس الأسباب الجذرية، ستنتهي، مع افتراض حسن النية، إلى التعتيم على خصوصية وضع العراق الكارثي تفاديا لتحميل المسؤولين عن ذلك التبعات القانونية.
كاتبة من العراق
القدس العربي