حساسية إخوانية خاصّة!

ثمة «حساسية» خاصة تميز مقاربة «الإسلاميين» في بلادنا لحقبة مديدة من «التحالف» مع النظام بخاصة والغرب عموماً...وثمة رغبة جامحة تدور في صدور وعقول البعض منهم، لإعادة كتابة تاريخ العلاقة بين هذه الأطراف، بـ»أثر رجعي»، أي من منظور اللحظة الراهنة وبوحي من «حالة الاشتباك» التي تميزها، بين هذه الأطراف.
أمس، كنّا في منتدى فكري، عَرَضتُ فيه لما أسميته «الهاجس الإسلامي» الذي ميّز سياسات الحكومات المتعاقبة في السنوات الخمس عشرة الفائتة، بعد أن استنفد «تحالفه التاريخي» مع الإسلاميين أغراضه...وعندما تصدى بعض قادة الحزب والجماعة، لدحض «نظرية التحالف» محلياً، اضطررت للاستشهاد بتجربة «الجهاد الأفغاني» والتي إن أردنا أن نلخصها بكلمات قليلة، فإنها التجربة/ الشاهد على هذا التحالف وامتداده الدولي بزعامة الولايات المتحدة، وانخراط نشط من قبل أصدقاء واشنطن، عبر العالمين العربي والإسلامي...وعندما نقول أصدقاء واشنطن في تلك الأزمنة، فإننا نعني من ضمن ما نعني الإخوان والحكم في الأردن.
يفضل السادة في الحركة الإسلامية، استخدام تعبير «ملطّف» في وصف تلك العلاقة... إنهم يؤثرون عبارة «تقاطع المصالح»...لكن السؤال الذي سيظل يطرق الأذهان مع ذلك هو: أوليست التحالفات في العمل السياسي أو امتداده العنيف: «الجهاد»، سوى تعبير عن هذا «التقاطع في المصالح»...هل من تحالفات من دون هذه مصالح المتقاطعة والمشتركة؟!.
ثم، ألم تأتلف قوى من تيارات سياسية وفكرية أخرى، مع خصومها ومجادليها في لحظات معينة من تاريخها...ألم تكن تلك التحالفات تعبيراً عن «التقاء المصالح وتقاطعها»...ولماذا الخجل من فكرة «التحالفات»...هل ثمة «نقاء وطهارة» في العمل السياسي...ألم تُقم تنظيمات إسلامية أكثر تشدداً من الإخوان، تحالفات وعلاقات تنسيقية مع مروحة واسعة من الحلفاء المتناقضين...من إيران إلى واشنطن، مرورا ببعض دول الخليج العربي؟!.
إن مراجعة التاريخ، حين تجريها قوى سياسية وناشطون اجتماعيون، لا يكون الهدف منها، إعادة صياغته و»لي عنقه»، بل الاستفادة من دروسه، لتفادي إعادة انتاج الأخطاء ذاتها، وتعظيم المصالح والمنافع المترتبة على دروسه وعظاته...ولا يمكن بحال من الأحوال، إعادة عقارب الساعة للوراء، وعلى الحركات السياسية، بمن فيها الإسلاميون، أن تتعلم إجراء المراجعات والمكاشفات، من دون إنكار أو تنكر.
ثم، أن موقف بعض الإسلاميين، الذي يلامس ضفاف «التشنج» عندما يؤتى على ذكر تلك الحقبة، لن يفيدهم لا تاريخياً ولا سياسياً... تاريخياً تلكم حقبة لها ما لها وعليها ما عليها... لم يبق تيار سياسي أو فكري واحد، دون أن يقارف الأخطاء والخطايا...وهي حقبة باتت ملك الباحثين والمؤرخين، ولم تعد ملكاً للإسلاميين وحدهم...أما سياسياً، فإن فرص إعادة بناء هذا التحالف، مع الغرب وحلفائها، ما زالت ماثلة ومحتملة...والمستقبل قد يكون محملاً بفرص واحتمالات إعادة انتاج ذلك التحالف.
ودعونا لا نغرق بعيداً في التاريخ...ولا أن نحلق عالياً في سماء المستقبل وعلم الغيب.... بالأمس القريب فقط، ارتأى «إخوان العراق المسلمون»، الانخراط في العملية السياسية التي أطلقها الاحتلال الأمريكي للعراق، وقادتها الشخصية الأمريكية الأبرز، بريمر عبر مجلس حكم انتقالي وعملية سياسية إعادة تفكيك العراق من دون أن تركيبه... واليوم، يبدو أن «إخوان سوريا المسلمين» على علاقة تحالفية مع كل أصدقاء واشنطن وحلفائها في المنطقة، بمن فيها تلك القوى التي ناصبت «المقاومة» و»الممانعة» أشد العداء...لتكون الخلاصة بعد هذا وذاك، أن الإخوان كأي حزب سياسي، من حقه أن يقيم تحالفات وأن يبحث عن تقاطعات، ومن واجبنا أن نقيّم هذه التحالفات وأن نسميها بأسمائها، وأن يكون لنا رأي فيها كذلك، ومن دون أن يثير ذلك حساسيات مفرطة لديهم...لا لشيء إلا لأننا نفعل ذلك دائماً، ونعمله مع كل الأطراف والتيارات من دون استثناء.
قبل أيام، عدت من جولة في الولايات المتحدة وكندا... وخرجت بانطباع يفيد بأن واشنطن لم تعد تشعل ضوءاً أخضر في مواجهة مشاركة الإخوان المسلمين، بل وتوليهم السلطة عبر صناديق الاقتراع...أي أن العصر الذي نسميه اليوم، ربيع العرب، هو باختصار «عصر الإخوان المسلمين»...وهذا يملي عليهم، كما يملي على كل الأطراف، إجراء الحوارات والاتصالات وبناء الشبكات وعقد التحالفات.
لقد هبّ كثير من الإخوانيين هبة رجل واحد ضد التقاء شخصيات وطنية بسفراء دول كبرى، وتحديداً السفير الأمريكي، وكان ردهم مرتبكاً ومتلعثما عندما تكشفت وثائق ويكيليكس عن لقاءات لهم مع ذات الجهات...وأظهرت الوثائق أن هذه اللقاءات شملت تقريباً، جميع الفروع الإخوانية، وبدرجات متفاوتة من الانتظام....ثم أليس الانفتاح على الغرب عموماً والولايات المتحدة بخصوص، هو واحد من أهداف المسعى الكثيف لحركة حماس (إخوان فلسطين)، التي دفعت أثماناً باهظة ثمناً لعزلتها ومقاطعتها واندراجها في اللوائح السوداء للفصائل الإرهابية.
والحقيقة أننا لا نرى أي مثلبة في لقاءات الإسلاميين مع مختلف الاطراف المحلية والإقليمية والدولية، بما فيها الولايات المتحدة، كما أننا لا نرى مثلبة في أي مسعى هادف لتخفيف حدة «الاستهداف» المركّز للإسلاميين...وإذا كنا ننصح من موقع المؤيد والناصح بالانفتاح على الجميع، فلماذا يعد حديثنا عن تحالفات تاريخية، بوصفه استهدافاً أو اتهاماً يستوجب رداً غاضباً.
وأخيراً، فإننا نرى أن لا مبرر أبداً لاستمرار هذه «الحساسية المفرطة»...وندعو الإخوان للتعامل بواقعية وهدوء حيال كل ما يمكن أن تثيره حقبة الحرب الباردة وتحالفاتها، من أسئلة وتساؤلات، خصوصاً إن جاء طرح مثل هذه الأسئلة في منتدى فكري أو لقاء بين نخب ودارسين وقادة رأي.(الدستور)