«وهكذا أخطأ الرفيق بريماكوف»...ثانيةً

قدم السياسي والمفكر الروسي العابر للحقب التاريخية التي تعاقبت على بلاده، تقييماً متشائماً لما بات يعرف بـ»ربيع العرب»...يفغيني بريماكوف، استبعد أن تتواصل الثورات والانتفاضات وأن تتنقل من دولة إلى أخرى...كما أن سقف التحوّلات التي ستبلغها الثورات المنتصرة في تونس ومصر، لن يكون من وجهة نظره سوى مزيج من ديمقراطية مقننة ومسيّجة بالحدود والأسلاك الشائكة التي ترسمها وتحدد معالمها، المؤسسة العسكرية...بريماكوف دافع عن موقف روسيا في مجلس الأمن ، وتمنى أن تثبت موسكو على هذا الموقف، لا بل لقد رجّح ذلك.
مع فارق العصور والأزمان، تذكّرني مقابلة بريماكوف على قناة الجزيرة، بمداخلته الفكرية قبل أربعين عاماً أو يزيد، في «قضايا الخلاف داخل الحزب الشيوعي السوري»، قبل أن ينشق الحزب إلى تيارين، بكداشي، وآخر مثّله رياض الترك، أو «جماعة المكتب السياسي»...يومها سخر بريماكوف من «مقولة الأمة العربية» وتحدث عن أمم وشعوب قيد التشكل، مستعيراً كل ما في القاموس الستاليني من مفردات ماركسية تبسيطية، لترويج سياسات بلاده في تلك الأزمنة، والتي تعرضت للنقد والطعن من قبل تيارات يسارية وشيوعية عربية عديدة.
أذكر أن الجبهة الشعبية وحزبها القومي آنذاك، «حزب العمل»، قد إنبريا للتصدي لأطروحات «الرفيق بريماكوف» وكتب العراقي هاشم علي محسن، مقالا مطوّلا في الرد عليه بعنوان «وهكذا أخطأ الرفيق بريماكوف»، قبل أن يدخل «قومي آخر» على خط السجال الساخن، وأعني به محمد حسنين هيكل مفنداً طروحات الرجل، ومنافحاً عن «الفكرة القومية العربية» والموقف العربي من إسرائيل والقضية الفلسطينية والمقاومة والكفاح المسلح.
اليوم، تشف تصريحات بريماكوف عن كوامن موقفه من المسألة القومية العربية...فهو قدم قراءة لربيع العرب، كما لو كان سياقاً قطرياً منفصلاً، لا تربط حلقاته، الواحدة بالأخرى، سوى ظروف الاقتصاد الضعيف والمعيشة البائسة...علماً أن القاصي والداني، بمن في ذلك، أكثر الناس تخففاً من ثقل «الشوفينية القومية»، ما كان بمقدوره أن يتجاهل «البعد القومي» لهذا الربيع المورق...ما كان بمقدوره أن يأخذ الثورات العربية في سياقها المحلي الضيق فحسب، وما كان له إلا أن يدرجها في سياقها القومي، كحركة يقظة عربية بامتياز، تستأنف ما بدأه الأجداد، من نهضة وتنوير، قبل أزيد من قرن من الزمان.
اليوم، يعاد بناء «الفكرة القومية العربية» بعد سنوات وعقود من التشويه الناصر والبعثي، وحتى اليساري أو «اليسراوي»: القوميين العرب...اليوم يُعاد إنتشال هذه النظرية من محاولات إغراقها في مواجهة «الهلال الشيعي» أو «الزحف الفارسي» من قبل، وفي مواجهة ما يشاع زيفاً عن «عثمانية جديدة متأمركة» اليوم...قومية عربية متصالحة مع جوارها الحضاري، ولا أقول الإقليمي، مستثنياً إسرائيل، التي زرعت في الخاصرة العربية، وبهدف إجهاض اليقظة العربية ومشاريعها الوحدوية.
اليوم، يعاد صياغة النظرية القومية العربية، على أسس من الحداثة والديمقراطية...قومية تعترف بحقوق كل مكوناتها من أفراد وجماعات، قومية منفتحة على أقلياتها ومتعايشة معها...قومية لا تنهض على «مركزية» كريهة، ألغت الأطراف، حتى بدأت تفقدها الواحد تلو الآخر...قومية قادرة على التصدي للأخطار والتهديدات الحقيقة التي تواجه الأمة، ولا تنساق وراء «مهددات» افتراضية، أملتها استراتيجيات دولية، وخضعت لها ورددتها كالببغاء، أنظمة ما كان لها أن تخرج عن سياقات التبعية والاستتباع.
أخطأ الرفيق بريماكوف ثانية...وأخطأ مرتين: المرة الأولى، حين تنبأ بوقوف قطار التغيير عند محطته المصرية...والثانية حين دافع عن مواقف بلاده، باعتبارها الخيار الصحيح والخيار النهائي للسياسة الروسية...فثمة ما يشير إلى أن زخماً جديداً يجري في عروق الشوارع العربية من جهة، وبما يوحي بأن هذا الربيع المورق سيزداد اخضراراً برغم ثقل الأعباء والتضحيات والأكلاف...وثمة ما يشي بأن موسكو، باتت تشعر بوطأة «الفيتو» عليها، لكأنها فرضت حصاراْ على نفسها، وهي التي كانت تسعى في منع الحصار عن النظام في دمشق من جهة ثانية، وأحسب أن «الإنذار الأخير» الذي وجهه ميدفيدف للأسد، هو الدلالة على هذا الضيق.
لن يضير ثورات الربيع العربي، أن تمر الديمقراطية الناشئة بمحطات انتقالية...لن يضيرها أن تقارن بتركيا عشية تسلم العدالة والتنمية لمقاليد السلطة...ويضير روسيا أن تحلق متأخرة بركب تركيا في موقفها من نظام الأسد، فالإنذار الروسي يذكّر بالإنذار التركي، مع فارق زمني مؤلم وطويل جداً بعمر التضحيات، وإن كان قصيراً للغاية بعمر الزمن. (الدستور)