القذافي هو الذي اختار نهايته

لحظة الأجل المحتوم ليست بخيار الإنسان, ولكن الإنسان له قدرٌ من الحريّة والإرادة ليختار شكل الميتة ونوعها ومستواها من حيث العزّة أو الذلة أو الكرامة أو ما يوازيها.
كان باستطاعة القذافي أن يوفّر كثيراً من الدماء والأشلاء على شعبه, وكثيراً من التشريد والتدمير; لو أنّه سلك مسلك التفاهم مع شعبه الثائر المحتقن, الذي يختزن الانتقام منذ (40) عاماً. لكنّه آثر المسلك الآخر, واختار ذلك المسلك الذي يقوم على الغطرسة والعنجهية والكبر, وعدم الاعتراف بالحقيقة, وعدم القدرة على رؤيتها, رغم أنّها ماثلةٌ للعيان ولكلّ ذي بصيرة.
لقد اختار مسلك الاستخفاف بشعبه, فقد حقّر شعبه عندما نظر إليهم أنّهم بادي الرأي, وجهلة وحثالة وبلهاء, بل صرّح بأنّهم جرذان, وكان تساؤله المكرر دائماً:من أنتم? فهو يظن, وأغلب الظن إثم أنّه خلال الأربعين عاماً وهو في السلطة, استطاع نزع الحريّة ونزع الكرامة ونزع الإنسانية من الشعب الليبي, وهو يظنّ أنّه استطاع أن يحولهم إلى كائنات ممسوخة لا تحسّ بالظلم ولا تدرك معاني التسلط والاستبداد.
يظنّ القذّافي أنّه وصل إلى مرحلةالتألّه واجتاز مرحلة التنبؤ, من خلال ما يطرق أذنيه من عبارات التبجيل والإعجاب والاندهاش والثناء الدائم المستمر على عبقريته وعمق فكره وجمال صورته, وكمال هيبته وسداد رأيه, من المنافقين والحاشية الفاسدة الجبانة, التي امتهنت التزلف والنفاق وتقبيل الأحذية وسيلةً للارتزاق والعيش, حتى وصلت الظنون بالرجل أنّه فعلاً شخصية خارقة لم تلد النساء مثله لا من قبل ولا من بعد, وأنّه لا مثيل له على وجه البسيطة, ولذلك أخذ يبحث عن الأسماء الكبيرة والألقاب العظيمة, فهو "ملك ملوك إفريقيا" وهو "عميد الزعماء العرب", وأصبح يبحث عن ملابس تفصل له خصيصاً, ما عرفها أحدٌ قبله, وسمّى ليبيا "الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى", ولا أدري هل سقط شيء من هذا الاسم العظيم أم لا?!.
لقد استخفّ القذافي بمجموع الليبيين الذين خرجوا أوّل الأمر بشكل سلمي, يطالبون بالعدالة والحريّة والكرامة, ولكنّه لم يقرأ جيداً ما يدور على وجه الحقيقة في ليبيا أولاً, وما يجري حوله من دول الإقليم العربي, ولم يتعظ مطلقاً مع ما حدث الديكتاتور التونسي, ومع ما حدث مع المستبد حسني مبارك; بل أخذته العزّة بالإثم, وقال إنّ وضع ليبيا مختلف! ووضع القذافي كرئيس أمر استثنائي خالص, فلا وجه للمقارنة بينه وبين الزعماء العرب, كما يزعم.
كان يظنّ أنّ وجود أبنائه الخمسة , كل واحد منهم على رأس جيش, سوف يوفر له الحماية من القدر المحتوم, وأنّ الاحتفاظ بما يزيد على (150 مليارا) من مقدرات الشعب الليبي سوف يؤمن له الحماية الأبدية, وكان يظنّ أن تجهيل الشعب وتذليله وإفقاره يصنع منهم عبيداً وحثالة لا تعرف الثورة في يوم من الأيّام.
لقد وقف في مواجهة شعبه, واستخدم كلّ ما بحوزته من أجل قتلهم وتشريدهم, وتعذيبهم وتدمير بيوتهم, وقتل أطفالهم واغتصاب نسائهم, وضرب مساجدهم, وهدم قراهم, وأحيائهم, بلا رحمةٍ ولا شفقةٍ, ودون رادعٍ من ضميرٍ أو دين أو خُلُق...
وهكذا كان القصاص ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب, فلا عجب, عندما صرّح نجل القذافي, لن نُسلّم ليبيا إلاّ بعد أن نهدمها حجراً حجراً, وهذا ما حدث بمدينة "سرت" و"مصراتة" وأخواتها من المدن والبلدات الليبية, وسقوط عشرات آلاف الضحايا أغلبهم من المدنيين.
ولذلك على كل زعيم عربي أن يختار نهايته, وأن يختار شكل الميتة التي يرغب فيها, وانّ آخر فصل في العلاقة مع شعبه وأن يدوّن في تاريخ بلده تلك الصفحة التي تخص الخاتمة التي ودّع فيها ثرى أرضه وعموم شعبه.
(العرب اليوم)