أكبر سجون العالم .. وأصغرها!!

توصف غزة في وسائل الاعلام التي لم تستوطنها الميديا الصهيونية بعد بأنها أكبر سجن في العالم، ولا خلاف على كون القطاع سجناً لكل من في داخله، ما دام الحصار قد بلغ ما هو أبعد وأقسى من ذروته، لكن أكبر سجن في هذا العالم هو العالم ذاته، فالكوكب الذي حولته العولمة والرأسمالية ذات الأنياب التي تقطر سماً لم يعد يدور حول نفسه أو حول الشمس، بل حول مبنى البنتاغون وأحياناً يستريح في حدائق البيت الأشد سواداً من الفحم البشري في العراق وغيره من الساحات التي جربت فيها الاسلحة المبيدة.
العالم أصبح سجناً بعد أن صودرت حريات من سوف يصبح عددهم قريباً سبعة مليارات انسان، هؤلاء حرموا من ثلاث حريات اضافة الى حريتهم السياسية، الحرية الأولى هي حرية انتقال الجسد الذي يفتش ويصور ويستباح حتى نخاعه، والثانية هي حرية انتقال المعلومة، فالادمغة تفتش ايضا وكذلك القلوب، والحرية الثالثة هي حرية التفكير، فثمة الآن من يفكرون نيابة عنا، وينوبون عنا في كل شيء الا الموت، الذي ننوب نحن فيه عنهم كي يعيشوا الى أرذل العمر والقهر والزّجر!
لقد مرت لحظات كان فيها السجناء هم وحدهم الاحرار، لأنهم ليسوا مخدوعين بحرية زائفة، مثلما مرت أوقات كان فيها المحتلون هم وحدهم المستقلون لأن عددهم ماثل أمامهم بلحمه ودمه وسلاحه بعكس الاحتلال الآخر المتعدد الاسماء والأقنعة، لهذا كتب ذات يوم الشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي من سجنه ان الفلسطينيين أكثر حرية وانعتاقاً من شعوب محتلة، لكن ما من أحد يعترف بذلك، وما من موعد مضروب حتى في اقصى التاريخ لتحررها.
ما أشبه هذا الكوكب بسيرك سياسي حيواناته من البشر انفسهم، ولعل من كتب مزرعة الحيوان وهو جورج اورويل كان يتنبأ بزمن تتبادل فيه الكائنات الادوار وصدقت نبوءته مثلما صدقت نبوءة روايته التي حملت عنوان 1984 وكتبت عام 1948 بأن تصبح الكلمات تعني عكس دلالاتها، فالحب كراهية والسلام حرب والاحتلال تحرير، اضافة الى ان اثنين + اثنين تساوي خمسة، وقد يتضاعف الرقم تبعاً للرياضيات الانجلوساكسونية الحديثة فيصبح ملياراً!
فلسطين، وبالتحديد ذلك القطاع الذي عانى من القطيعة اكثر من اي شيء في الكون لا تنافس سجون العالم كي تكون الاكبر أو الاصغر، وبقدر ما هي سجن فهي حرية ايضاً، لهذا كتب سارتر في كتابه جمهورية الصمت عن زمن الاحتلال النازي لفرنسا يقول:
لم نكن احراراً كما كنا تحت الاحتلال لأننا لم نكن فرنسيين كما كنا في تلك الايام لأن مجرد كتابة اسم فرنسا يكلف المرء حياته.. وهذا ما فعله محمود درويش عندما اعتذر عن قراءة قصيدته سجل أنا عربي في عاصمة عربية، وقال ان قيمة هذه القصيدة أنها كتبت وقرئت في فلسطين تحت الاحتلال وهناك يصبح لعبارة سجل أنا عربي معنى آخر!
بقي أن نتذكر أصغر سجن في هذا العالم انه ليس من زنازين وقضبان وأدوات تعذيب، كما انه ليس من حديد واسمنت، أصغر سجون العالم هو هذا الجسد الذي نقيم فيه، ونرتهن لغرائزه وجوعه وبحثه عن الأمان.
ما من سجين اسوأ حالاً ممن تحول جسده الى زنزانة من لحم وعظم!!(الدستور)