جديد السياسة الخارجية الأمريكية وقديمها

يعد خطاب السيدة هيلاري كلينتون أمام المعهد الوطني الديمقراطي، نقطة تحوّل وانعطافا في مجرى السياسة الخارجية الأمريكية حيال الشرق الأوسط...فقد تضمن جملة من الرسائل والمواقف الجديدة، ما يستدعي الاهتمام والانتباه الشديدين:
الرسالة الأولى التي تضمنها الخطاب، موجهة لقادة المنطقة وحكامها...إما أن تُغيروا أو أن تتغيروا...لا خيار ثالثا بين الخيارين المذكورين، لا على المدى البعيد ولا على المدى المتوسط...كلينتون في خطابها المذكور، قدمت "الإصلاح" على "الاستقرار"، بل واعتبرت الأول طريق الثاني وشرطه...منتقدة السياسة الأمريكية في الحقب السابقة، التي "تسامحت" مع نظم الفساد والاستبداد، بذريعة الخوف على الاستقرار...والأهم في رسالة كيلنتون للقادة والحكام، أنها برّأت "المطالبين بالإصلاح والتغيير" من المسؤولية عن إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار، واعتبرت أن "رفض التغيير" وليس المطالبة به، هو المسؤول عن الفوضى والدماء وانعدام الأمن والأمان.
الرسالة الثانية التي وجهتها كلينتون من على منصة المعهد الوطني الديمقراطي، كانت موجهة للحركات الإسلامية، التي طالما استخدمتها الأنظمة الحاكمة كـ"فزّاعة" لتعطيل مسار التحول الديمقراطي والاصلاح السياسي...لم تعودوا تلك "الفزاعة" بعد اليوم، هكذا قالت كلينتون، بل ومدت اليد الأمريكية إليهم إن هم جاءوا للحكم عبر صناديق الاقتراع واحترموا قواعد اللعبة الديمقراطية وحفظوا حقوق المواطنة والنساء والأقليات والتداول السلمي للسلطة....لقد أسقطت كلينتون، رسمياً وعلناً، ما كان يعد "فيتو" أمريكيا مشهرا في وجه "حركات الإسلام السياسي"...لقد باعت إدارتها "بضاعة فاسدة" اعتادت الإدارات السابقة شراءها، المرة تلو المرة، من مروّجيها المتحكمين برقاب العباد ومقدرات البلاد في العالم العربي.
وهي ترحب بحزب النهضة وتبارك له انتصاره في انتخابات تونس، وجهت كلينتون رسالة تحذير ثالثة، للمجلس العسكري في مصر، ومن خلاله لكل القادة والمتنفذين، غير المنتخبين...لا يجوز الانقلاب على الثورة وصناديق الاقتراع...لا يجوز لمن هو غير منتخب، أن يحظى بحصة الأسد أو حتى "الضبع" من كعكة السلطة و"مطبخ صنع القرار"... هذا ليس من الديمقراطية في شيء...هذا افتئات على الديمقراطية وتهديد للأمن والسلم والاستقرار.
وبلغة أكثر كياسة ودبلوماسية، وجهت كلينتون، رسالة "نصيحة" رابعة، لدول اخرى صديقة...الإصلاح ضرورة للاستقرار...ومصالح الولايات المتحدة في هذه المنطقة، ومن ضمنها النفط ومحاربة الإرهاب، لا يعني أنها غافلة عن حاجة شعوب هذه المنطقة الغنية للحرية والديمقراطية...كلينتون تحدثت بلغة الصداقة مع دول هذا الإقليم، لكنها لم تخف رفضها لكثير من سياسات التمييز المتبّعة أو التعطيل المنهجي لمسار الإصلاحات الشاملة فيها.
لكن "جديد" خطاب كلينتون لم يذهب بكل "قديم" السياسة الأمريكية، فلم يخل خطابها من عديد الثغرات، أو "الثقوب السوداء"....أولها أنها كالت بمكيالين فيما خص الإصلاح في العالم العربي، تحدثت بلغة ناعمة هنا وأخرى خشنة هناك.. واعترفت بذلك وبررته بوجود مصالح أخرى للولايات المتحدة في هذه المنطقة، لكن من منظورنا نحن، أبناء المنطقة، نرى أن الإصلاح، هو الأولوية الأولى في كل الدول العربية من دون استثناء، غنية كانت أم فقيرة، متعاونة في الحرب على "الإرهاب" أم ممتعنة عن ذلك...كلينتون عبّرت عن مصالح بلادها في هذه النقطة، ونحن نعبر عن مصالح شعوبنا حيالها، والواضح أن المصلحتين العربية والأمريكية غير ملتقيتين هنا.
أما "الثقب الأسود" الثاني، فتمثل في وضعها "حرية الشعب الفلسطيني" رهن التسوية التفاوضية المتفق عليها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مع أن حرية الشعب الفلسطيني، حق مقدس، غير مشروط، قبلت به إسرائيل أم لم تقبل، وكان بودنا لو أنها استدركت الحديث عن "ربيع العرب" بحديث "ربيع فلسطين، وربيع فلسطين يبزغ عن تغرب شمس الاحتلال الحارقة، وتنطوي صفحة الاستيطان المقيت، ويُمَكن الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في العودة إلى وطنه وتقرير مصيره بنفسه وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
أما "الثقب الأسود" الثالث، فتمثل في حديثها عن "الأذرع العسكرية" لبعض الأحزاب والفصائل، مشترطة عدم وجود ميليشيا لأي فصيل أو حزب يريد أن ينغمس في اللعبة الديمقراطية، وهذه نظرية صحيحة مائة بالمائة، ولكن ليس على إطلاقها، ففي دول تخضع للاحتلال، لا يمكن إسقاط حق الشعب في المقاومة، وهو حق كفلته الشرعية الدولية والقانون الدولي...حديث كلينتون صحيح في الحالة المصرية والتونسية واليمنية والبحرينية وغيرها كثير...لكنه ليس كذلك في الحالتين الفلسطينية واللبنانية...هنا يدور الحديث عن مقاومة مشروعة، وليس عن ميليشيات.
وفي الحقيقة فإن جديد خطاب كلينتون مبثوث في "قديم الجدل الأمريكي العام" حول قضايا التحوّل الديمقراطي في المنطقة...ولطالما قرأنا واستمعنا لمفكرين وكتاب وباحثين أمريكيين يتحدثون بهذه النبرة ويستخدمون ذات المفردات، ولطالما قرأنا واستمعنا أيضاَ لنقيضها...لكنها المرة الأولى التي ترتفع فيها هذه القضايا إلى مستوى السياسة الرسمية للإدارة الأمريكية وهذا تطور مهم بكل المقاييس.
طوال السنوات الماضية، كنا نواجه بأشد ردود الفعل قسوة ونحن نتحدث في عشرات المؤتمرات بهذه المفردات والأفكار والعناوين، وكنّا نقابل بالصد من قبل زملاء أمريكيين وأوروبيين...اليوم، يبدو أن رهاننا قد نجح، وما كان يبدو أصواتاً نشازاً تصدر عنا، بات سياسة رسمية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وشكراً لـ"ربيع العرب" الذي جعل مثل هذا التحوّل أمراً ممكناً...
لم تسعفنا "قوة المنطق" طوال العقدين الفائتين، إلى أن أغاثنا "منطق القوة" الذي هدر به ميدان التحرير وشارع الحبيب بورقيبة وساحات التغيير والمجد في صنعاء وتعز وعدن وثوار ليبيا وبواسلها وانتفاضة الكرامة في حمص وحماة وأدلب، وحراكات كل الشوارع والميادين العربية.
(الدستور)