من مفارقات «الربيع العربي»

استبشر كثيرون بنجاح الثورة المصرية في الإطاحة بالرئيس حسني مبارك و”بعض نظامه”...من بين أسباب عديدة لهذا التفاؤل وذاك الاستبشار، أن مصر مع بعد الثورة، ستحتفظ لنفسها بمسافة عن “استراتيجيات واشنطن في المنطقة”، وأنها ستتخذ مواقف أكثر حسماً حيال الغطرسة والاستعلاء الإسرائيليين، وأنها ستنأى بنفسها عن سياسة المحاور والاحلاف العربية/الإقليمية، معتمدة سياسة أكثر اتزاناً وتوازناً مع إيران وحماس وحزب الله.
مصر ما زلت في قلب المخاض، وفي خضم “الانتقال” الصعب إلى ضفاف الحرية والسيادة والديمقراطية...بيد أنها أطلقت الكثير من المؤشرات التي تؤكد أن هذا التفاؤل لم يكن ضرباً من الشطط، وأن له ما يبرره...أنجزت المصالحة بين فتح وحماس، وأتمت صفقة شاليط، وتقاربت مع إيران، وبدأت تبحث لنفسها عن “خيارات وبدائل” في التعامل مع الولايات المتحدة، لن تصل حد ما تطالب به التظاهرات العربية، بيد أنها لن تكون على شاكلة الخيارات التي انتهجها حسني مبارك...وفي ظني أن قادمات الأيام، خصوصا بعد احتلال التيار الإسلامي بجناحيه، الإخواني والسلفي لما يقرب من ثلثي مقاعد مجلس الشعب، ستشهد تبلور هذه المواقف والسياسات، على نحو أوضح، خصوصاً بعد أن يعود “العسكر” إلى ثكناتهم، ويسلمون زمام القيادة لحكم وحكومة مدنيين.
في المقلب الآخر للربيع العربي، سوريا على وجه الخصوص، تبدو الصورة تتجه في طريق معاكس تماما...المجلس الوطني السوري، جسم المعارضة الرئيس، والناطق باسم الثورة السورية...يتحدث باعتماد “المفاوضات” طريقاً لاسترداد السيادة على الجولان، وفقاً للشرعية الدولية...لكأن نظام الأسدين، الأب والابن، لم يفن 20 عاماً من المفاوضات المباشرة وغير المباشرة من دون جدوى، لقد وصلوا إلى هذه الخلاصة في الوقت الذي تقف فيه السلطة الفلسطينية ذاتها، التي قامت بالمفاوضات، على أعتاب مرحلة “تطليق” المفاوضات، بعد أن انكشف زيفها وعبثيتها وتهافتها.
برهان غليون، رئيس المجلس، ووفود المجلس الجائلين في أوروبا ما انفكوا يعدون الدول الغربية بأن سوريا ستبتعد عن إيران وحزب الله صبيحة اليوم التالي لسقوط النظام، بل إن بعضهم يربط “القطع والقطيعة” مع إيران بفتح صفحة تفاوض وسلام وتطبيع مع إسرائيل...ولا يبدد قلق كثيرٍ من المراقبين، قول السيد غليون، بأن سوريا ستعزز علاقاتها مع الدول العربية بديلاً عن إيران، فالمحور العربي المشار إليه، متورط في علاقات مع إسرائيل، وهو يشجع على إقامة مثل هذه العلاقات، أي بمعنى آخر، من العبث البحث عن شهادة “حسن سلوك” لدى من يفتقر إليها.
نفهم أن المعارضة السورية في مرحلة لا يرتجى منها، أن تكشف عن كامل مواقفها وتوجهاتها، على اعتبار أن الأولوية الآن هي لإسقاط النظام...وندرك تمام الإدراك، أن مخاض ما بعد سقوط النظام، سيفضي إلى بلورة معارضات جديدة، وسيدخل جميع مكونات الطيف السياسي السوري في معركة تحديد الأوزان والأحجام، وبخلاف كل ما يتردد على ألسنة المعارضين الليبراليين والعلمانيين، فإن سوريا ما بعد الأسد، لن تكون استثناءً أو خروجاً عن نماذج تونس ما بعد بن علي، وليبيا ما بعد القذافي، ومصر ما بعد مبارك، والأرجح أن أول انتخابات تعددية، حرة ونزيهة، في سوريا، ستأتي بالإسلاميين من مدارسهم المختلفة إلى سدة الحكم، والمؤكد أن هؤلاء لن يكونوا بـ”تساهل” و”مرونة” المعارضة الحالية التي تتصدر المشهد الإعلامي (والعلاقات الخارجية) السوري.
المؤكد أن سوريا ما بعد الأسد، وحتى إشعار لن تدخل في حرب مع إسرائيل...والمرجح أنها ستكون انتقائية (مذهبياً) في دعم المقاومة...المؤكد أن علاقات دمشق بطهران لن تبقى على حالها، بوجود مكون إخواني وسلفي رئيس في النظام السياسي السوري، وكذا الحال مع حزب الله اللبناني، لكن حماس وحدها على ما يبدو، ستكون الاستثناء، وستحظى بعلاقات مع سوريا، ربما أفضل من علاقاتها بالنظام الحالي، وفي أقل تقدير، لن تفقد شيئاً من حضورها وامتيازاتها على الأراضي السورية.
قلنا قبل أسابيع عدة، أن العقد الثاني من القرن الحالي، هو عقد الإسلاميين، بل وعقد الإخوان على وجه الخصوص، وها هي نتائج الانتخابات في العديد من الدول العربية، تأتي مصداقاً لهذا التقدير، الذي طالما عارضه وبشدة، معارضون يساريون وقوميون وعلمانيون، نظروا للظاهرة الإسلامية، بوصفها “فقّاعةً” تُعطى أكبر من حجمها...ولن يقلل من شأن هذه الظاهرة، القول بأن قوة الإسلاميين نابعة من ضعف الآخرين وتبعثرهم...في السياسة لا فرق بين الأمرين، والنتيجة واحدة.
هي مفارقة إذن، من مفارقات الربيع العربي...في المدى المرئي مصر تغادر سياساتها واصطفافاتها السابقة...وسوريا تفعل كذلك، أو بالأحرى ستفعل كذلك...والنتيجة أن الدولتين المركزيتين العربيتين، سيظل مكتوب عليهما – وفي المدى المرئي أيضاً – أن تسلكا طريقين متعاكسين...لكأننا أمام لعبة “الخيارات الصفرية”، أو ما يسمى باللغة الإنجليزية “Zero sum game”...”عرب الاعتدال” خسروا حليفاً وقد يكسبون صديقاً...وتيار “الممانعة” سيخسر مكوناً رئيساً منه، لكنه قد يكسب حلفاء في أماكن أخرى.
(الدستور)