المجتمعات تفشل أيضاً !

كتب خلال السنوات الأخيرة الكثير عن الدولة الفاشلة، وهو مصطلح نعوم تشومسكي عندما كتب مجلداً من مئات الصفحات عن هذا النمط من الدول العاجزة كما يقول عن حماية مواطنيها، كما كتب أيضاً عن الدولة المستباحة بعد أن أصبح مفهوم السيادة من كلاسيكيات التاريخ.
وكان ما كتبه محمود حيدر في كتابه الذي حمل عنوان الدولة المستباحة بمثابة كشف المستور فمن خلال عدة قرائن وحيثيات اتضح ان مفهوم الحدود الاقليمية هو ايضاً من معاجم المتحف السياسي، لكن هناك مفارقة تستحق التأمل في هذه المقاربات، هي ان الدولة ليست مفهوماً غامضاً أو من عالم الغيب، فهي بأبسط التعريفات الاقنوم الثالث بعد الارض والشعب، لهذا فهي ليست بمعزل عن مكوناتها والناس الذين افرزوها من صُلْبهم.
لهذا فالقول الخالد إن الناس كمن يولون عليهم يحذف الفاصل الوهمي بين الحاكم والمحكوم خصوصاً اذا كانا قد انحدرا من الرّحم ذاته، وهذا ما يفسر لنا كيف تُصاب المعارضات السياسية بالعدوى ذاتها عندما يتاح لها ان تحكم، فتغيير الاسماء والاشخاص والمصطلحات لا يعني على الاطلاق تغيير الجوهر.
واذا كانت هناك دول توصف بالفشل أو بالرخاوة، فبالمقابل هناك مجتمعات بشرية تُصاب بهذا الفيروس، وذلك من خلال عجزها عن الهضم والتمثل أو ما يسمى ديناميات الامتصاص والاستيعاب، وكما يحدث للكائن الحي عضوياً فإن بعض المجتمعات التي لا تملك معدة حضارية هاضمة تعاني من عسر هضم وغثيان مُزمن، وتتحول بمرور الوقت الى ديناميات طاردة.
وأقرب مثال عربي هو ما كان يقال عن مصر في النصف الأول من القرن الماضي، فقد امتلكت قدرة هائلة على التمصير، وإعادة انتاج من هاجروا اليها.. والمثير بالفعل ان أبرز شعراء العامية المصرية وهي من صميم الشعب هم من أصول مهاجرة الى مصر مثل بيرم التونسي وفؤاد حداد وآخرون.
والمسألة ليست رهناً بالمضادات أو حتى بالجغرافيا وتضاريسها السياسية، فالولايات المتحدة هي في نهاية المطاف أمة من المهاجرين لكنها استطاعت بمرور الوقت بناء قواسم وطنية مشتركة بين مختلف الأجناس.
ويبدو ان هناك شروطاً لكي تتحول الديناميات الطاردة الى ديناميات ماصة أو استيعابية منها تمدين النسيج الاجتماعي وتطوير أنماط انتاج اقتصادية من شأنها ان تحول من كانوا رعايا الى مواطنين وفق عقد اجتماعي تعود مسودته الأولى تاريخياً الى الماغناكرتا البريطانية وجان جاك روسو رغم التباين الزمني بين التجريبي اذ تفصل بينهما قرون.
الدولة وفق تعريفها المعاصر ذات باع طويل في تحديد جهة البوصلة الاجتماعية، سواء من خلال التعليم ورعايته وربطه باستراتيجيات قومية أو عبر مختلف وسائل التوعية والتنمية السياسية التي تُعْنى بالإنسان قبل أي شيء آخر..
الدولة الفاشلة تعاني من فشل مزدوج فهي إذ لا تستطيع حماية مواطنيها كما يقول تشومسكي تدفع مواطنيها ايضاً الى الانخلاع السياسي بالتدريج عنها، ومن هنا تتفاقم أزمة الثقة بين الحاكم والمحكوم ومن المفارقات ان ما نتحاور حوله من ظواهر سياسية ومصطلحات من طراز الدولة الفاشلة أو الرخوة أو المستباحة يبقى في نطاق سجالات متأنقة ومتعالية عن الواقع الذي نحياه، ورغم كل ما ينشر موسميا من قوائم عن الدول الفاشلة والأكثر فشلاً فإن هذه المعلومات تبقى قيد التداول بين النخبة، لأنه ما من دولة تعترف بالفشل وبالتالي ما من مجتمع يعترف بحالة الغثيان المزمن التي يعانيها بسبب عُسْر الهضم الاجتماعي.
انه طلاق بائن بينونة كبرى بين ما نقرأ وما نرى وبين ما نقوله سراً وما نهمس به على استحياء علانية..
فالمجتمعات كالدول والأفراد أيضاً لها أمراضها وجلطاتها ومختلف أشكال الانيميات!!
(الدستور )