مؤتمر لـ«أصدقاء القدس والأقصى»

- بأجسادهم العارية، يتصدى الفلسطينيون للعدوان الإسرائيلي المتكرر على المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة...ينجحون أحياناً في دفع قطعان المستوطنين والجنود المدججين بالحقد والكراهية للخلف، ويخفقون أحياناً، لكنهم في كل مرة، يظهرون شجاعة استثنائية في الذب عن قلاعهم، ويبذلون من دم وحرية أبنائهم وبناتهم، ذوداً عن أرضهم ومقدساتهم.
والمعركة في الأقصى وحوله، هي حلقة في المعركة الأكبر في القدس وحولها وعليها، القدس التي يريدها الاحتلال “عاصمة أبدية موحدة” لـ”دولة جميع أبنائها يهود”، ويصل الغلاة والمتطرفون حد اعتبارها عاصمة لجميع اليهود في العالم، يأتون إليها متى شاؤوا، يقيمون ويستوطنون ويعيثون فيها خرابا وفساداً...أما أهلها وسكان البلاد الأصليون، فليس لهم سوى التشريد والاقتلاع والحصار والسجن ومصادرة الأراضي والحقوق والحريات معاً.
القدس، بأقصاها وصخرتها، بمساجدها وكنائسها، التي لم تسلم من العبث والانتهاك هي الأخرى، هي شرارة المواجهة الواسعة القادمة بين شعب فلسطين ودولة الاحتلال والاستيطان...والمؤكد أن لهيب هذه المواجهة لن يتوقف عند حدود فلسطين التاريخية، بل سيتخطاها إلى ساحات عربية وإسلامية، بالذات تلك التي مرت بها نسائم “الربيع العربي”.
لكن النظام الرسمي العربي يبدو منصرفاً عن القدس والمقدسات، صوب أولوياتٍ أخرى ضاغطة على أجندته...بعض النظم العربية المنبثقة من “ربيع العرب” ما زالت تجهد في لملمة شتات نفسها، وبناء جديدها الذي لم ينشأ بعد، على أنقاض قديمها الذي لم يرحل ولم يرفع الراية البيضاء، وما زال يخوض معاركه بشراسة ودموية.
أما بعضها الآخر، فمنهمك في البحث عن “سلطة احتلال” جديدة ليقاومها ويسلح معارضاتها وجيوشها “الحرة” وغير الحرة، باعتبار ذلك “فكرة ممتازة”، فيما فظائع سلطة الاحتلال، القديم والمتجدد والممتد لأزيد من ستة عقود، تفقأ العيون، ولا تجد من تلك الأنظمة ما يثير حميتها لنصرة الأقصى والمقدسات، واستنفار العالم في “مؤتمر لأصدقاء القدس والأقصى”، وبذل المال والسلاح و”المجاهدين” لتحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، لكأن بعض العرب، يريد شطب الأقصى من قائمة المساجد الثلاثة، التي لا تشد الرحال إلا إليها.
الدوافع الدينية والأخلاقية، تحرك هؤلاء لنصرة “جماعاتهم” في المعارضة السورية، ولا أقول المعارضة السورية على اتساعها، ومدهم بالمال والسلاح لإسقاط نظام دمشق...لكن هذه البواعث والدوافع، تختفي أو تكاد، حين يتصل الأمر بفلسطين والأقصى والمقدسات...في سوريا لا مكان للحوار، فقد صار وراء ظهورنا وبلا جدوى، وفي فلسطين، لا حدود زمنية للحوار والتفاوض مع “سلطة الاحتلال”، حتى وإن كان حواراً فارغاً ومفاوضات عبثية...في سوريا لا تسامح مع نظام يقتل المتظاهرين، وفي فلسطين، نتبارى في البرهنة على أننا أبناء “ثقافة سلام وحوار وتسامح”...لسوريا يحشد العالم في مؤتمر أراد بعض العرب، أن يكون له أنياب ومخالب، أما في فلسطين، فيكفي لقاء تضامني مع القدس، لقوى ومجاميع وشخصيات، تتبخر كلمات خطاباتها الجيّاشة، قبل أن يستقر أصحابها على مقاعد الدرجة الأولى في رحلة الإياب إلى يومياتهم الرتيبة والسخيفة....في سوريا يستيقظ الضمير، ليعود للضمور والاختفاء في فلسطين وبيت المقدس.
شعب فلسطين، تحرك خلال الأيام والأسابيع القليلة الفائتة، بحمية وجرأة للذود عن حقوقه في قدسه ومقدساته، وها نحن نرى قطاع غزة يردد أصداء “غضب القدس والضفة” الآخذ في الاستعار...ومناخات الوحدة الوطنية على تعثرها وترددها، تسمح بالانتقال خطوة إضافية على طريق إطلاق مقاومة شعبية واسعة، ضد الاحتلال والاستيطان، ولا شك أن شعب فلسطين يراهن محقاً هذه المرة، على العواصم العربية التي تحررت من نير الخنوع والاستتباع، وعلى المواطنين الذي استعادوا مواطنتهم وكرامتهم وحرياتهم، ولا أحسب أنه – الشعب الفلسطيني – سيعود لإطلاق صرخة “يا وحدنا”...لا أحسب أنه سيستمر لفترة طويلة في “حك جلده بظفره فقط”.
وستستحق إسرائيل “جائزة الغباء العالمية”، إن هي فكرت أن بمقدورها في زمن الربيع العربي، أن تفعل ما اعتادت على فعله في عقود الاستبداد والركود والاستنقاع، من قتل وتشريد وعدوان منفلت من كل عقال...ولعلها “ضارة” قد تكون “نافعة”، حين تنجح إسرائيل بممارساتها العدوانية البشعة، إلى إعادة القضية الفلسطينية إلى قلب الشارع العربي النابض، بل وإعادة توجيه الحركات الشعبية والجماهيرية العربية، ضد الخطر المشترك والعدو المشترك.
وربما يوفر اشتعال المواجهة الفلسطينية – الإسرائيلية فرصة سانحة، لقطع الطريق على قوى الثورة المضادة العربية، التي تسعى في اختطاف ثورات الربيع العربي، وحرفها عن وجهتها الصحيحة، كحركات مطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية، ذلك إن دخول إسرائيل على حركة الشارع العربي، سوف يضع قوى الثورة المضادة في أضيق الزوايا، وسيعيد ترتيب أولويات الشارع العربي، التي يسعى كثيرون لخلطها و”خربطتها”.
(الدستور)