أميركا وإيران... سياسة الحذر والارتباك
لقد كانت إيران إحدى أكثر القضايا إثارة للجدل المحتدم بين المرشحين الرئاسيين، أوباما ومنافسته كلينتون في مرحلة السباق الرئاسي التمهيدي ، من ناحيته أكد أوباما رغبته في اللقاء المباشر بمختلف قادة الدول المارقة خلال العام الأول من ولايته الرئاسية ، أما كلينتون فكان موقفها على نقيض ذلك تماماً ، فعلى حد قولها: لا أريد أن استغل لخدمة أغراض دعائية أياً كانت ، فالفكرة ليست أن يقابل رئيس بلادنا كاسترو أو شافيز، أو رئيس كوريا الشمالية أو إيران ونحوها، ما لم ندرك مسبقاً ما تؤدي إليه خطوة اللقاء معهم لكن فيما يبدو فقد ساد موقف كلينتون حتى هذه اللحظة، فيما يتصل بالتعامل مع إيران وهناك ثلاثة أسباب على الأقل تفسر هذا.
أولها أن إيران على وشك إجراء انتخابات رئاسية جديدة في الثاني عشر من شهر يونيو المقبل، يواجه فيها نجاد منافساً إصلاحياً قوياً وقد تزعزع الموقف السياسي للرئيس الإيراني، جراء ارتفاع نسبة التضخم الاقتصادي في عهده إلى ما يزيد عن 20 في المئة، بينما تجاوزت نسبة البطالة 30 في المئة، وربما يتحسن وضعه السياسي في حال تعامُل واشنطن معه، على مستوى قيادي رفيع. غير أن واشنطن اتخذت قراراً صائباً بالامتناع عن منح ديماغوجي مثله وزناً عالمياً خلال فترة انتخابية حرجة.
هذه الإدارة تمزج سياسة الحذر التي تنتهجها برسالة أخرى مشوشة المضمون فهي ليست ميالة إلى التفاوض في الوقت الحالي، ولا هي ترفع عصا التهديد فوق رأس طهران.
السبب الثاني أن إيران نفسها لم تكن في حالة مزاجية تسمح لها بالتعاون مع الآخرين فقد رحب نجاد بخطاب التنصيب الرئاسي الذي ألقاه أوباما -وخاصة رغبة الرئيس الأميركي في التواصل مع الآخرين ومد يد مبسوطة إليهم- ولكنه كان ترحيباً مشروطاً بأن تقدم واشنطن اعتذاراً عن الجرائم التي ارتكبتها بحق إيران، إلى جانب إجراء تغييرات عميقة وأساسية -على حد وصفه-على سياسات أميركا الخارجية ، وكرر نجاد قريباً التعبير عن موقفه السابق، القائل إن ما يسمى بالهولوكوست ليس سوى كذبة كبرى وخلال الشهر الحالي، أدلى خامنئي بأول تصريحاته العلنية عن فترة الانفتاح والدبلوماسية الجديدة، وانتقد تبني أوباما لالتزام سابقه بوش الاستراتيجي إزاء إسرائيل، التي وصفها بأنها "ورم سرطاني". وفي الوقت نفسه عبر عن دعم بلاده غير المحدود لحركة "حماس" و"حزب الله"، بينما انتقد القادة الفلسطينيين على أي تنازلات قدموها للنظام الصهيوني. وفيما يبدو فقد تعامل القادة الإيرانيون وأتباعهم مع عرض التفاوض الأميركي، باعتباره مؤشراً لضعف في واشنطن. وهذا ما عبر عنه على سبيل المثال زعيم "حزب الله" بقوله: "إن أميركا لم تعلن عن استعدادها للتفاوض مع أي طرف من الأطراف، ليس بدافع أخلاقي منها، وإنما لأنها فشلت في محاولات تطبيق مخططاتها في المنطقة" وفي الوقت نفسه تواصل مليشيات "جيش القدس" الإيرانية قيادة وتدريب الشيعة الإرهابيين في العراق.
إلى ذلك قال "دنيس بلير" -مدير مكتب المخابرات القومي- أثناء شهادته أمام مجلس الشيوخ في الأسبوع الماضي: لقد ألمح بعض المسؤولين الإيرانيين، منهم على سبيل المثال، قائد قوات الحرس الثوري، إلى أن بلاده سوف تكون لها يد في ضرب المصالح الأميركية، مهما بعدت. وفي هذا ما يشير إلى أن لإيران خططاً لتدبير هجمات إرهابية وخوض معارك غير تقليدية ضد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها"هكذا وبدلا من أن تبسط طهران راحتها لتمدها للآخرين، فهي تشد قبضتها وتزيدها وعيداً وتهديداً في وجه الآخرين.
ثالثاً: عادت هيلاري وميتشل المبعوث الرئاسي الخاص لمنطقة الشرق الأوسط من زيارات إلى المنطقة، لمسا خلالها هواجس العرب الأمنية ومخاوفهم من طهران ، فقد سمعت وزيرة الخارجية أثناء زياراتها لنظرائها العرب، حديثاً متكرراً يتردد بقوة عن مخاوف أمنية من الخطر الإيراني ، وأدركت أن أي تعامل دبلوماسي رفيع المستوى من جانب بلادها مع طهران، يعد خيانة أميركية للحلفاء العرب وبسبب سيادة ذهنية المؤامرة وقوة تأثيرها على الدبلوماسية العربية، فسوف يفهم أي تعامل بهذا المستوى مع طهران، على أنه تعبير عن إبرام صفقة سرية معها، وهو ما يدفع العرب أنفسهم لإبرام صفقات مشابهة معها.
تقديراً منها لهذه المخاوف، دعت كلينتون إلى عقد مؤتمر دولي حول أفغانستان، يدعى له مسؤولون إيرانيون، بحيث تتاح فرصة اللقاء المباشر معهم على هامش جلسات المؤتمر. وبذلك ترمي كلينتون لإتاحة فرصة مشابهة لتلك التي توفرت لسابقتها كوندوليزا رايس، فمكنتها من الالتقاء وجهاً لوجه مع المسؤولين الإيرانيين على هامش المؤتمر الذي دعت له حول العراق ومثلما تمكنت من فتح قناة تعامل مع سوريا قبيل انعقاد مؤتمر أنابوليس للسلام عام 2007، ها هي كلينتون تمد يدها لفتح صفحة مشابهة مع دمشق.
وبدلا من أن تتخذ واشنطن موقفاً واضحاً وقاطعاً من إيران، نراها تفضل التعبير عن مواقف مزدوجة إزاءها. فقد استنتج تقرير صدر مؤخراً عن الوكالة الدولية للطاقة النووية، أن لإيران كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب، وأنه لن يستحيل عليها تطوير سلاح نووي بعد مدة وجيزة من التخصيب ، ويؤكد قائد هيئة الأركان المشتركة، أن إيران ماضية نحو تطوير أسلحتها النووية. وهذا ما لا يوافقه عليه وزير الدفاع الأميركي، الذي يعتقد أن إيران لا تزال بعيدة عن الحصول على أسلحتها النووية. وقال إن ما يحول دون توجيه ضربة عسكرية إلى إيران هو السؤال: هل نحن مهددون بتوجيه ضربة عسكرية إلينا في الداخل؟ وهذا هو من نوع المواقف التي لا تطمئن إسرائيل، ولا حلفاء أميركا العرب.
بهذا نصل إلى أن هذه الإدارة تمزج سياسة الحذر التي تنتهجها برسالة أخرى مشوشة المضمون. فهي ليست ميالة إلى التفاوض والإقناع في الوقت الحالي، ولا هي ترفع عصا التهديد فوق رأس طهران.
* محلل سياسي أميركي
الاتحاد الاماراتية