ثقل مصــــر
ليست قضية غياب مصر خاصة بمؤتمر قمة بعينه، مؤتمر الدوحة الأول أو الثاني، بل هي قضية خاصة بالسياسات العربية المصرية بوجه عام، سياسة الانكفاء على الذات والانطواء كرد فعل على سياسة الانتشار والالتزام في الخمسينيات والستينيات التي يُقال إنها كلفت مصر خمس حروب، بحيث أصبحت بنيتها التحتية أقل من أي بلد عربي، ومستوى دخل الفرد الواحد أقل من مستوى أي مواطن عربي آخر، وهو ما حدث لفرنسا بعد هزيمة نابليون في معركة واترلو وانكفاء فرنسا على ذاتها بعد أن قادت الثورة الفرنسية حركات التحرر في أرجاء أوروبا كلها، وأصبح لفلسفة التنوير أنصار في كل مكان، وتركت الفراغ في الساحة العربية تملؤه دول عربية أخرى، كبيرة أم صغيرة، كماً أم كيفاً، بقدرة فعلية أم بانتشار إعلامي.
أصبحت سياسة مصر العربية، يقول البعض، التهديد بمقاطعة العمل العربي المشترك، وهي تعلم أن غياب مصر عامل مؤثر في نجاحه أو فشله. وإن حضرت فإنها تهدد بمستوى التمثيل في ثقافة تجعل الحضور والغياب مرتبطين بالرئيس وليس بالمؤسسة، بالقمة وليس بالقاعدة. وتحول العمل العربي المشترك إلى إنقاذه بدلا من حل المشاكل المطروحة عليه، والمصالحة بين الأطراف العربية بدلا من صياغة سياسات عربية واحدة في قضايا العرب المصيرية والعاجلة، فلسطين والعراق والسودان ، أصبح الهدف هو حل الخلافات العربية فإذا تمت المصالحة بطريقة أو بأخرى نجحت القمة بصرف النظر عن جدول الأعمال فأقصى ما يتمناه العرب هو الحد الأدنى من الاتفاق بدلا من تضارب المواقف وسياسة المحاور، والتفرق والخلاف، كل فريق يعتبر نفسه على صواب والآخر على خطأ.
إن عظمة مصر في سلوك الشقيقة الكبرى، التعالي على الجراح، وتجاوز الخصومات، وعدم الوقوف على الصغائر. فالكبير كبير بتاريخه وبماضيه ، وكبير بإمكانياته الفعلية. إن الأخ الأكبر قادر على احتواء الأخ الأصغر، والعمل في صمت أكثر فاعلية من الصوت المرتفع في ثقافة يغلب عليها القول أكثر من الفعل، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ).
إن عظمة مصر في سلوك الشقيقة الكبرى، التعالي على الجراح، وتجاوز الخصومات
وقد تتم المصالحة على نحو بطولي مسرحي بالإعلان الرسمي الإعلامي وإعلان أن الأخوة بين القادة تجبُّ ما سواها من خلاف سياسي. فتبقى الأخوة، ويظل الخلاف السياسي قائماً. وقد يفعل الأخ الأصغر ذلك مع الأخ الأكبر أو يفعل الأخ الأكبر ذلك مع الأخ الأصغر من أجل فلسطين والعراق والسودان. التنازل عن الشخص من أجل الوطن، وعن الكبرياء الفردي من أجل المصلحة العامة، وعن الزعامة من أجل القضية. وقد تتم المصالحة بطريق هادئ بعد أن تهدأ النفوس.
إن وزن مصر قوة للعرب، وثقل مصر ثقل للعرب وغياب مصر غياب للعرب على الساحتين الإقليمية والدولية. والعرب مجتمعون أفضل من العرب متفرقين مثل تفجير أنابيب النفط في سوريا في العدوان الثلاثي على مصر في 1956، وحظر السعودية ودول الخليج النفط، وخوض معركة مشتركة بالتنسيق بين مصر وسوريا في حرب أكتوبر 1973. وكما يقال لا حرب بدون مصر، ولا سلام بدون سوريا. ويمكن أن يضاف، ولا قرار بدون السعودية، ولا إعلام بدون قطر إن القادر على إيجاد بدائل لمصاعب مبادرة السلام العربية هم العرب مجتمعين بمن فيهم مصر ، ففلسطين مسؤولية العرب جميعاً، مصر وحدها أو دول الجوار وحدها فكل العرب، مسلمين ومسيحيين جوار لفلسطين، وكل المسلمين جوار للقدس.
إن الغياب حضور سلبي إذ يشعر الحاضرون بحضور الغائب ليس عن طريق "مَن" يمثله بل عن طريق "ما" يمثله من ثقل ووزن وقدرة وإمكانية، الغياب على المقعد حضور في النفوس والحضور في النفوس غياب في اتخاذ القرارات ، والغياب في اتخاذ القرارات حضور إعلامي وتساؤل إخباري بعد أن تحولت اجتماعات العرب إلى ظواهر إعلامية تعبر عن توقعات العرب التي تنتهي بالأمل أو اليأس، بالنجاح أو الفشل.
وسواء غابت مصر أو حضرت، فالعبرة في تنفيذ القرارات لمن حضر أو غاب، العبرة في النتائج الفعلية للحضور أو الغياب، وأثر ذلك على القضية العربية لقد حضرت مصر كثيراً من مؤتمرات القمة في عصر ريادتها للعمل العربي في الخمسينيات والستينيات، ومع ذلك لم ينتج عنه أثر كبير في حل قضايا العرب، وفي مقدمتها قضية فلسطين. ولم ينتج عنها إلا المصالحات العربية، والتأكيد على لمِّ الشمل قبل انفراط العقد.
إن الخصام بين الدول ليس من السياسات المعترف بها إذ لا تعترف العلاقات الدولية بسياسة الباب المغلق بل بالباب الموارب حتى تفتح المجال للمستقبل وإمكانية تغيير الظروف التي تسمح بإعادة العلاقات بين الدول الخصام والقطيعة ليسا سياسة بل موقف انفعالي، رد فعل يضحي بمصالح الشعوب، ليس الخصام سياسة بل التعاون الإقليمي، يكثر أو يقل صحيح أن هناك الأمن القومي للدول ولكنه يتجاوز دول الجوار إلى دول جوار الجوار ودول الأمن الإقليمي صحيح أن الأمن القومي لمصر في السودان، ولكن من يستطع المساهمة في حل قضاياه فليتفضل ولا يوجد حكر لدولة واحدة في التعاون معه. التعاون من الآخرين، صغيراً كان أم كبيراً، هو الطريق لحل القضايا الكبرى دون احتكار دولة واحدة حتى ولو كانت الشقيقة الكبرى للأمن الإقليمي. لا يوجد احتكار لتقديم الحلول أو جمع الأطراف المتخاصمة بل مساهمة الجميع، كل حسب طاقته، فلا الكبير يظل كبيراً، ولا الصغير يبقى صغيراً والدولة قادرة بنظامها السياسي وليس فقط بثقلها التاريخي. الدولة بخيالها وليس بكمها والأخ الأكبر قادر على لم الشمل وتوحيد الجهود لمعالجة قضايا العرب الكبرى.
لا يكفي حضور مصر نادي برشلونة أو الاتحاد من أجل المتوسط أو السعي لأن تكون عضواً منتسباً في الاتحاد الأوروبي. فالضفتان الشمالية والغربية للبحر المتوسط ليستا بديلا عن الضفتين الجنوبية والشرقية "مستقبل الثقافة في مصر" ليس فقط عبر البحر الأبيض المتوسط، كما عرض طه حسين، بل عبر البحر الأحمر في صلتها بآسيا عبر شبه الجزيرة العربية إلى الهند والصين وماليزيا وإندونيسيا وأواسط آسيا وتركيا حتى يتعادل الجناحان الغربي والشرقي ، ليس من المعقول فتح الباب الغربي وسد الباب الشرقي ، فقد أتانا الاستعمار الحديث من الغرب، والمساعدات على التحرر منه من الشرق ما ينقص هو الخيال السياسي.
الاتحاد الاماراتية