ستغناء .. وطغيان

ثمة علاقة وطيدة بين الاستغناء و الطغيان ، فالفرد الذي يشعر بأنه استغنى بقوته او ماله او معرفته او سلطته لا يعرف الطريق الى الله تعالى ، ولا يعترف بالاخر ، ولا يحفظ امانة الخلافة ومسؤولية العمارة اللتين خلق من اجلهما.. والدولة حين يأخذها الاستغناء بقوتها وجبروتها تقع ايضا في مصيدة الطغيان ، ومثل ذلك الجماعة والحركة والامة.. بل والبشرية ايضا حين تتنكب صراط ربها.. وتبحث لها عن بديل خارجه.
حدث ذلك في التاريخ مع فرعون حين استغنى فطغى ، ومع قارون حين بسط الله تعالى له المال فتجبر ، ومع ابي جهل وابي لهب وغيرهما ، وحدث ذلك مع الامم التي ظنت ان ما انتهت اليه من قوة هو من صنع نفسها ، فاستغنت عن الله ومارست طغيانها ، حتى اذا جاءت لحظة الحساب: جعلناها كأن لم تكن.. وتبرناها تتبيرا.
وفي عالمنا اليوم ثمة استغناء وطغيان ، عولمة تخترق الخصوصيات وتلغي الاخر وتستغني عن العالمين ، وفي داخلها يمتد الطغيان والاستكبار ، وانسان تضخمت فيه الانا واستبد به الاحساس بالاكتفاء او وهم الاشباع يتحول الى طاغية ، وصدق الله العظيم كلا ان الانسان ليطغى أن رآه استغنى .
وعلى هذا الخط الذي ترسمه المعادلة يمكن ان نفهم ما يجري في عالمنا من صراع ، بين اتباع الحضارات او الديانات او الثقافات ، او بين من يحتل الارض ومن يدافع عنها ، او بين من يملك الثروة ومن حرم منها ، ولذلك جاء الاسلام الذي فهم النفس البشرية واحسن التعامل معها بالدعوة الى ترتيب العلاقة الانسانية على اسس سليمة من التوازن والوسطية ، وتذكير الانسان دائما بأنه ضعيف ومحتاج الى خالقه والى الكون ايضا ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير ، والتقدير الرباني - هنا - هو قانون وسنة ينبغي على المسلم ان يفهمها وهو يتعامل مع واقعه ، اذ ان الحال تتغير وما سيكون عليه غدا قد يختلف عما هو كائن فيه اليوم ، مما يرتب عليه محاسبة نفسه وادامة علاقتها مع السماء.. لا الخلود الى حسابات اللحظة ، او اوهام الذات.
ان العلاقة التي تربط الناس ببعضهم - كما يراها الاسلام - لا تقوم على المصلحة فقط ، فاذا استغنى عن اخيه تجبر عليه ، واذا احتاج اليه اقترب منه ، وانما تقوم على القيم السامية ، والاخلاق الرفيعة ، والحب في الله ومن اجله وكذلك البغض فيه تعالى ولاجله ، عندها - فقط - لا يعود الاستغناء مفضيا الى الطغيان ، وانما الى الاحساس الايماني العميق بحاجة الانسان الى خالقه ، والانسان الى اخيه ، وتلك معادلة لو استقامت ، لما فجعنا في هذه الانسانية المعذبة بالحروب والانقسامات والطغيان.. ولما اكل الانسان اخاه الانسان. ( الدستور )