انْتَموا إلى "الآفاق" ولا تَنْتَموا إلى "الجذور" !

إذا أردتَّ أنْ تَعْرِف ماهيَّتك الحقيقية، ومَنْ أنتَ حقَّاً، أو أنْ ترى نفسكَ على حقيقتها العارية من كل ما خلعته عليها من ثياب وأقنعة جميلة، فما عليكَ إلاَّ أنْ تَعرِف ما الذي يَسْتَفِزُّكَ، ويهيِّجكَ، ويُخْرِجكَ عن طورك، ويجعل لكَ عيناً لا تُبْصِر، وأُذناً لا تَسمع، ورأساً من نارٍ حامية.
إنَّ خَدْش عصبية (تستبدُّ بكَ) أصبحت، في عالم الأمم الحيَّة المتحضِّرة، أثراً بعد عين هو ما يَسْتَفِزُّكَ، وهو، من ثمَّ، المفتاح الذي به نفتح المُغْلَق منكَ، انتماءً وهويةً ووعياً وشعوراً.
إنَّنا نتزيَّن ونتبرَّج بفكرٍ وثقافةٍ، من صُنْع غيرنا، ويَكْمُن فيهما "الرَّاقي" و"الحضاري" من "الانتماء" و"الانحياز" و"الهوية"؛ لكننا، في أوقات الضِّيق والشدة، أي عندما يُسْتَفَز "الجاهلي" الكامن فينا، نُسْرِع في الارتداد إلى الميِّت، الحي أبداً في نفوسنا ومشاعرنا، وفي "الباطن"، أي الحقيقي، من وعينا.
إننَّا نظلُّ في ثقافتنا الحقيقية من أحفاد عبس وذبيان مهما تسربلنا بسرابيل "القومية" و"الليبرالية" و"العلمانية" و"اليسارية"، فكلُّ متسربلٍ بسربال منها، أو من غيرها ممَّا يشبهها، يكفي أن تَسْتَفِزَّ "الجاهلي" الكامن فيه حتى يرجع القهقرى إلى "قبيلته" و"قبليته"، وإلى ما تفرَّع منهما من دولٍ وأوطان وأحزاب..
تعصَّبوا وانحازوا؛ لكن ليس لأشياء لم تختروها اختيارا، كالقبيلة والطائفة الدينية، وإنَّما لأشياء اخترتموها بأنفسكم، كالفكر الذي تتسربلون به تسربلاً.
"العصبية"، على وجه العموم، من "العُصْبَة"، وهي "الجماعة" من الناس، أو الحيوان، أو الطير.. "إذْ قَالُوا ليُوسُفُ وأخُوهُ أحَبُّ إلَى أبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةُ إِنَّ أبَانَا لَفِي ضلاَلٍ مُبينٍ".
أمَّا معناها فهو تمادي ومغالاة وإفراط المرء في الميل والانحياز والانتصار لعُصْبَته، أي للجماعة البشرية التي ينتمي إليها بالدم، أو بغيره؛ وهذا "التعصُّب" هو كالتعصُّب العشائري والقبلي، والتعصُّب الديني، والتعصُّب القومي.
"التعصُّب" مذموم، ولو كان من قبيل تعصُّب المرء لأفكاره، فالمرء المتعصِّب (المتعنِّت) لأفكاره، التي هي عادة، أو على وجه العموم، ليست من صُنْعه هو، يبدي دائماً إعجاباً شديداً بها، لا يتنازل عنها ولو ثَبُت لديه بالدليل القاطع بطلانها؛ إنَّه من مدرسة "عنزة ولو طارت"!
وإيَّاكم أن تظنُّوا أنَّ "الآخر" لا وجود له حيث تسود وتزدهر "العصبية" و"التعصُّب"؛ إنَّه موجود دائماً؛ لكن على هيئة "عدوٍّ لدود"، أو "شيطان رجيم"؛ وبعض المتعصِّبين قد يوظِّفون "السماء" في "شيطنة" هذا "الآخر"، حتى يَسْهُل عليهم تحرير "الطاقة الإيمانية الدينية" لدى أتباعهم في معركة "القضاء على الآخر".
والـ "الدولة العربية"، عباءةً ارتدت أم بنطالاً، والتي قلَّما ترى لها نظيراً لجهة كونها ثمرة اغتصاب للسلطة، هي "الانتهازية بعينها" لجهة صلتها بـ "موروث اجتماعي وتاريخي وثقافي.."، يكفي أن يظل على قيد الحياة، وأن ترعاه الدولة وتحفظه وتصونه وتهادنه وتتصالح معه حتى يصبح "المجتمع المُنْتِج للدولة الحقيقية" ميتاً، أو شبه ميت، أو عرضة للموت، وحتى يتضاءل وزن وحجم "الدولة الحقيقية" في داخل كل دولة عربية.
وإنَّه لتناقضٌ لا نظير له لجهة سخفه وافتقاره إلى العقلانية أنْ ترى الدولة عندنا، والتي هي، في كثيرٍ من المعاني، غريبة، تزداد غربةً، عن مجتمعنا، في سعيٍ دائمٍ لتحالُفٍ زائفٍ مع كل ما يشتمل عليه مجتمعنا من مضادات لتطوُّره في اتِّجاه المجتمع الحر الديمقراطي المنفتح، والذي مع غيابه تغيب "الدولة الحقيقية"، أي الدولة في مفهومها الغربي (الأوروبي).
و"انتهازية" الدولة عندنا، وفي هذا المعنى للانتهازية، تَقْتَرِن بنهج (تنتهجه في صلتها بالمجتمع) لا يختلف كثيراً عن "سياسة فرِّقْ تَسُدْ"، فالمجتمع الزاخِر بعصبيات وانتماءات وهويات ضدَّ تطوُّره في اتِّجاه القرن الحادي والعشرين، يجب أن يتَّحِد وينقسم، أن يستقرَّ ويضطَّرِب، أن يتصارع ويتصالح، بما يعود بالنفع والفائدة على "الدولة"، بصفة كونها فئة ضئيلة، منفصلة، بمصالحها وأهدافها الحقيقية، عن المجتمع، لا شيء يستأثر باهتمامها سوى الاحتفاظ بسلطةٍ اغتصبتها اغتصاباً، أو ورَّثتها إيَّاها قوى أجنبية!
إنَّ "الحضارة"، و"الحرِّية"، و"الديمقراطية"، هي أشياء ثلاثة تَحْضُر، وتزداد حضوراً، إذا ما غاب شيء رابع، وازداد غياباً، ألا وهو "التعصُّب" بأنواعه، وفي مقدَّمها "التعصُّب الدِّيني"، و"التعصُّب للدم"، فإنَّ هذا التعصُّب، أو ذاك، هو الذي فيه، وبه، تنمو وتقوى وتشتد "الوحشية" في البشر.
و"سؤال الانتماء"، الذي بحسب إجابة المجيب عنه نميِّز "الانتماء الحضاري" من "نقيض هذا الانتماء"، إنَّما هو: هل أنتمي (أنا ابن القرن الحادي والعشرين بعد وليس قبل الميلاد) إلى ما لم أخْتَر، وما لم أُرِدْ، أم إلى ما أختار، وما أُريد؟
أنتَ لم تَخْتَر، ولم تُرِدْ، أن تكون من عُصْبَةٍ ما (من عشيرة أو قبيلة أو جماعة دينية..) لكن يمكنكَ أن تختار، وأن تريد، انتماءً آخر، فيه، وبه، تسمو وتتسامى. ( العرب اليوم )