حُمولة الإسفنج .. والدم!!

من حق الحمير التي كانت حصة حمولتها من الاسفنج أن تضحك وتنهق وتبرطع كيفما تشاء، وان تخرج اللسان لمن تهد كواهلهم حمولة الملح، لأنها لا ترى أبعد من أقدامها ولا تتوقع ان تعترضها بحيرات من الدم وليس الماء فقط، عندئذ تبدأ رحلة العقاب. حمولة الاسفنج تتلخص في كون هذا الطرف أو ذاك قد أدرج على قائمة المؤجلين، فثمة أولويات في كل شيء تحددها الجغرافيا بديكتاتوريتها والتاريخ بثقله والاقتصاد بمعادلاته الصعبة.
في الحكاية التي سمعنا بها لأول مرة في المدرسة الابتدائية عن حمار الإسفنج وحمار الملح، لم يكن الدم قد سال بحيث يصبح بطل الحكاية وبديلاً للماء.
لكن ما كان يُروى للصغار كي يناموا يجب ان يروى الآن للبالغين كي يستيقظوا، فمن لم يأزف دوره بعد في الطابور الطويل أمام المسلخ قد يشتبك مع زميله على عشبة أو جرعة ماء، وقد تستيقظ غرائزه فيحاول اشباعها وهو قاب خطوتين أو ادنى من السكين.
ما أكثر المواعظ في ثقافتنا وتاريخنا، وما أكثر التحذير من الطمأنينة الكاذبة لكن الافراط في هذه المواعظ والحكم والأمثال نزع منها الدسم وحولها الى مجرد مقولات لفظية عديمة الدلالات، تردد موسمياً وسرعان ما تزول كالزبد.
حمار الاسفنج الذي قرأنا عنه في الطفولة تورط بالماء فقط ولو وجد من يعصر الاسفنج الذي ينوء به لاستراح، لكن حمار اليوم من طراز آخر، فهو مهدد بما هو أثقل وأكثر لزوجة ولسعاً للذاكرة والضمير وهو الدم، الذي قد يكون دم ذوي القربى أو الابناء، فالمختبرات القومية الآن عاطلة عن العمل، ولا أحد يعرف فصيلة دمه الوطنية والتاريخية حتى لو حفظ عن ظهر قلب اسم ونوع فصيلة دمه العضوية.
قبل أعوام قليلة كانت حمير الاسفنج تسخر من صراخ واستغاثة حمير الملح لأنها بسبب قصر النظر والإركان الى الأمر الواقع باعتباره أبدياً لم تفكر بغير ما هي فيه من نعمة، وحين جاءت النقمة فقدت توازنها أولاً وترنحت ثم سقطت لأنها لم تهيىء نفسها ولم تتأهل لحمولة اخرى، خصوصاً اذا كانت من دم.
وأسوأ ما سقطنا فيه نحن العرب هو أن أحدنا يوهم نفسه بأنه الاستثناء من الألم والفقر وحتى الموت، وحين تأزف اللحظة الصعبة يبدأ ضرب الاخماس بالاسداس لكن بعد ان يكون الأوان قد فات.
وما افتقرت اليه حمير الاسفنج هو الخيال، أو ما يسميه الانجليز في مثل شعبي ضع نفسك في حذاء الآخر أي مكانه كي تشعر بما يعانيه.
وشحة الخيال أزمة سياسية بامتياز قبل ان تكون أزمة ثقافية أو ابداعية، ولو تناوب حمار الاسفنج قليلاً مع زميله الرازح تحت الملح لاختلفت النتائج تماماً، لكن فقر الخيال يؤدي الى وهم المعصومية والاستثناء، ويعتقد من لم يأزف دورهم بعد، أنهم ينعمون ببوليصة تأمين تاريخية، وأن قول الشاعر: (مَنْ سَرَّهُ زمنٌ.. ساءَته أزمانُ) لا يَشمَلُهم!!. ( الدستور )