مدافع.. المسيو هولاند!

لا أدري ما الذي دفع بفيلم المغامرات والاكشن (العسكري) الذي شاهدته يافعاً في سينما وكالة الغوث الدولية «المتحركة», التي كانت تجول على مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية (وغيرها بالطبع), وتعرض افلاماً سينمائية بآلة عرض تقليدية تختار لها شاشة (عملاقة) من الاسمنت على أحد مبانيها ثم تطليها باللون الابيض كي يبدو كشاشة سينما, وكان ابناء المخيم يحتشدون بأعداد غفيرة كي يروا هذه «العجائب» مجاناً, ويتفقون فيما بينهم على افساح المجال للجميع كي يروا, فيبدو اتفاق الجنتلمان هذا وسيلة للاستمتاع, وإلا فإن سيارة السينما ستغادر وعندها سيخسر الجميع متعة كهذه.. ولم يحدث أن غادرت إلا في حالات استثنائية, كأن يكون الفيلم مقطوعاً يصعب الاستمرار في عرضه أو أن تتعطل آلة العرض, أما غير ذلك فينتهي «العرض» بالتصفيق دلالة الاستحسان وخصوصاً عندما ينتصر الخير على الشر أو القبضاي على البلطجي (في افلام الميلودراما العربية بالطبع عندما يتزوج البطل من حبيبته أو يضرب منافسه عليها, علقة ساخنة ويفوز بقلب البطلة)..
أخذتنا الذكريات بعيداً عن الواقع المرير الذي وضعنا المسيو فرانسوا هولاند فيه, عندما أبدت باريس استعدادها لتزويد المتمردين السوريين بمدافع ثقيلة (نعم ثقيلة) كي تمكّنهم من الاحتفاظ بالمناطق المحررة (...) وصدّ قوات النظام التي تهاجمهم..
هنا تذكرت فيلم «مدافع نافارون» بانتاجه الاميركي البريطاني, بكل ما حفل به من مغامرات وبطولات مبالغ فيها, كانت جزءاً لا يتجزأ من الدعاية التي واصلها المعسكر الغربي, للاشادة ببطولة الحلفاء (وحدهم ولا ذكر للسوفيات ابداً) في الحرب العالمية الثانية واظهار بسالة وعبقرية وذكاء وخيال يفتقر إليها بالطبع النازيون, ليظهروا مجرد جبناء وقتلة, تعوزهم الحكمة والشجاعة والتقدير الصحيح, وهم دائماً ضحايا المفاجأة التي يصدمهم بها جنود الحلفاء.
طبعا وكما يعرف كل من شاهد الفيلم, في النهاية نجحت مجموعة الحلفاء التي تم ارسالها, في تدمير النقطة الحصينة والاستراتيجية (ممر مائي استراتيجي عند بحر ايجة بالقرب من اليونان) التي كان الالمان قد وضعوا فيها مدافع ضخمة ذات قوة تدميرية هائلة شكلت خطرا على سفن الحلفاء التي تنقل امدادات لقواتهم.
المسيو هولاند ربما لا يريد استنساخ التجربة, فلا البحر هو البحر ولا البر هو البر ذاته, والظروف الاقليمية والدولية مختلفة لكن العقلية الاستعمارية لا تتغير، قد تُبدّل قبعاتها وتغير رطانتها ومفرداتها وربما «تبتدع» اساليب ومقاربات جديدة, لكن اهدافها لا تتغير في الهيمنة ونهب الثروات واذلال الشعوب واستعبادها ودائما في خطاب استعلائي وعبقري.
هنا والان, يمكن قراءة هذه الاندفاعة الفرنسية غير المسبوقة في قرع طبول الحرب وتبني المعارضات السورية والاستعداد للاعتراف باي حكومة انتقالية تشكلها, ولم يكن تصريح وزيرا خارجية فرنسا وايطاليا بانه اذا «خسرنا» سوريا – فإن الاستقرار في الشرق الاوسط سيكون مُهددّاً وامن اوروبا مهدد على نحو خطير .
هل يدرك اصحاب الرؤوس الحامية في بلاد العرب الان, حقيقة ما يجري بعد ان باتت «اللعبة» اكثر انكشافا ووضوحا.. «هم» إذاً يخوضون «معركة» سوريا ولا يريدون خسارتها, ولهذا يواصلون سفك دماء السوريين وتعطيل أي حل وسط ودائما ينسفون كل محاولة لجمع السوريين (كل السوريين وبلا استثناء) على طاولة الحوار, للخروج بصيغة يكون على رأس اولوياتها وقف سفك الدماء وعدم مواصلة تدمير سوريا الدولة والوطن والكيان والدور التاريخي والحضاري.
مدافع المسيو هولاند, لن تنجح في اخفاء الحقيقة، حقيقة أن كل هذه الحماسة في دعم المعارضات المسلحة انما تخفي خلفها اهدافاً استعمارية وحنينا لدى القوى الاستعمارية القديمة باعادة اقتسام المنطقة ورسم خرائطها الجديدة على النحو الذي قارفه البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا بيكو قبل مائة عام, وها هو التاريخ، يُراد له ان يعود الى الوراء.. وهو لن يعود.
ما ينقص المستر هولاند وكل النافخين في كير الأزمة السورية, هو إعادة قراءة التاريخ واستخلاص دروسه وعبره.. ( الرأي )