منتجو الفيلم حققوا ما هدفوا إليه

يقولون في لبنان «الجمرة ما بتحرق إلا موضعها»، بمعنى أن الألم أو الأذى لا يشعر به غير صاحبه، والكل في العالم العربي يعتقد أنه وحده مصاب، فاللبناني أو السوري أو المصري أو اليمني أو التونسي لا يرى إلا ما حلّ به، وما هو قادم، فلا يرى مصائب الآخرين لتهون عليه مصيبته، كما يقول المَثل.
كنت في نهاية الأسبوع أقرأ جرائد لندن، وبينها «الفاينانشال تايمز»، وهي جريدة اقتصادية حصيفة رصينة، ولكن لم أقلب بضع صفحات متابعاً أخبار المال والأعمال حول العالم حتى لفت نظري شيء آخر، فبين صفحة وصفحة كانت هناك أخبار حروب ونزاعات وقتل وتظاهرات من النوع الذي يعتقد كل عربي أنه ابتلى به وحده.
في جمهورية الكونغو الديموقراطية هناك حرب أهلية ربما كان عمرها 20 سنة، والآن أصبحت الحرب تهدد حيوان الغوريلا في محمية فيرونغا الوطنية، بعد أن وصل زحف الثوار إلى مشارفها، بمساعدة رواندا المجاورة بحسب تقارير للأمم المتحدة.
وهكذا فالغوريلا الذي أعطى اللغة الإنكليزية اسمه في وصف حرب العصابات أصبح ضحية بدوره، وهناك 800 غوريلا في حماية حوالى 300 حارس في المحمية، والخطر محيق بالحيوان وحارسه.
في الصفحة نفسها كان هناك خبر عن تظاهرات في باكستان احتجاجاً على الفيلم الحقير عن رسول الله، سقط فيها 20 قتيلاً. دنتُ التظاهرات في أول يوم من انطلاقها وأدينها اليوم، فمنتجو الفيلم يحققون ما هدفوا إليه بمساعدة متظاهرين يعميهم الجهل، وهل هناك خبر أفضل للأعداء الذين أنتجوا الفيلم بقصد استثارة المسلمين من أن يقرأوا أن 20 مسلماً هنا وعشرة هناك وخمسة في مكان آخر قُتلوا في تظاهرات ضد فيلمهم المنحط مثلهم؟ ضحايا التظاهرات مسلمون قُتلوا بأيدي رجال شرطة مسلمين في بلاد مسلمة، ونفذوا ما يريد أعداء الإسلام والمسلمين.
في صفحة تالية رأيت صورة اعتقدت في البداية أنها من نوع غارة جوية وحريق، إلا أنها كانت لأنصار حزب دخل البرلمان للمرة الأولى في انتخابات حزيران (يونيو) الماضي، وهم يرفعون المشاعل في الليل انتصاراً لحزبهم اليميني المتطرف الذي اشتهر عن أعضائه الاعتداء على خصومهم كأن إفلاس اليونان لا يكفي.
ولم يكن الوضع أفضل في خبر في الصفحة نفسها عن بيلاروسيا (روسيا البيضاء) فهناك مواجهة بين أنصار الحكومة والمعارضين، وهؤلاء سحبوا كثيرين من مرشحيهم في الانتخابات البرلمانية يوم الاثنين، التي تعتبر اختباراً لمدى شعبية الرئيس ألكسندر لوكاشنكو فهو حكم البلاد حكماً فردياً على مدى السنوات الثماني عشرة الماضية.
في الصفحة التالية، ومرة أخرى هذا في جريدة اقتصادية، كان هناك خبر عن استمرار الخلاف والتحديات المتبادلة بين الصين واليابان على جزر سنكاكو في شرق بحر الصين، فاليابان تسيطر على الجزر والصين تطالب بها كجزء من أرضها، والجارتان الكبيرتان تتبادلان التهديدات وترفضان التفاوض، وهناك تظاهرات في كل بلد ضد البلد الآخر، والمراقبون يشعرون بأن الخلاف أذكى النزاعات القديمة الكامنة بين البلدين.
قبل أن أنسى أسجل أن عدد نهاية الأسبوع في «الفاينانشال تايمز» نشر في صفحته الأولى خبراً عن ميت رومني، المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية، أغاظني بقدر غيظي من سياسته الخارجية المتطرفة، وحلفه مع مجرم الحرب بنيامين نتانياهو.
رومني مليونير كبير ومتهم بأنه يدفع ضرائب أقل من الموظفين الصغار العاملين عنده. وهو لرد التهمة قرر أن يكشف سجله الضريبي لعام 2011 فلم يفعل سوى إثبات التهمة فقد تبيَّن أنه دفع 14.1 في المئة ضريبة على دخله العالي جداً.
أقيم في لندن وأدفع الحد الأعلى للضريبة وهو 40 في المئة منذ 25 سنة، مع أن دخلي كله في ربع قرن لا يعادل الفوائد على بعض استثمارات رومني في سنة واحدة.
جمرة الضرائب أحرقت جيبي وملايين الناس مثلي إلا أنها لا تصل إلى جيوب أصحاب الملايين والبلايين، خصوصاً في الولايات المتحدة.
( الحياة اللندنية )