خياران لإسرائيل : ضم الضفة كلها أو نصفها

سبق ليوسي بيلين، أحد أبرز أنصار “أوسلو” وشريك ياسر عبد ربه في “مبادرة جنيف”، أن وجه النصح للرئيس الفلسطيني محمود عباس بإلغاء “اتفاق أوسلو” الانتقالي، الذي سيُتم العام المقبل، عقدين من عمره “المديد”، علماً بأنه كان مُقدراً لهذا الاتفاق أن يستكمل الأهداف التي وضِعَ من أجلها في مايو\أيار 1999...يوسي بيلين هذا، ينوي إطلاق مبادرة جديدة لإنقاذ عملية السلام المترنحة تقوم على الشروع في بناء دولة فلسطينية، تستكمل الشق الغائب من مشروع “حل الدولتين”، بعد أن تيقن من وفاة “أوسلو” سريرياً...لكن ما يتعين على السادة القراء والسيدات القارئات، أن يدركوه ويدركنه، هو أن بيلين وحركته “ميريتس” يقبعان في زاوية منسية معتمة، في أقاصي الخريطة السياسية والحزبية في إسرائيل، وأن ما يقوله بيلين وما يصدر عن “ميريتس”، ليس في واقع الحال، أكثر من “ثرثرة على ضفاف المتوسط”.
الجدل في إسرائيل. بين تياراتها الرئيسة يذهب في إتجاه آخر، بعيد تماماً عن “أحلام بيلين وأوهامه”...وهو يراوح بين حدين: ضم الضفة الغربية بأكملها أو نصفها، وهذا ما تشي المواقف والتقديرات التي تصدر عن مؤسسات وشخصيات إسرائيلية نافذة.
“التيار المركزي” في إسرائيل، ما زال يدعو لضم مناطق واسعة من الضفة: الكتل الإستيطانية الكبرى، القدس الموحدة، مناطق خلف الجدار...مع الإحتفاظ بالسيطرة العسكرية على المرتفعات المطلة على غور الأردن ومطار اللد، بل والسيطرة العسكرية المباشرة على الغور والمعابر...هذا التيار يريد تحقيق ذلك بالسلطة الفلسطينية أو من دونها...بالتفاوض والتوافق، أم عبر إجراءات أحادية من النوع الذي يدعو له إيهود باراك.
لكن في إسرائيل، تيار ديني – قومي (استيطاني) آخذ في التنامي، يقف بالمرصاد لكل محاولة لتقسيم “أرض إسرائيل الموعودة” من النهر إلى البحر..هذا التيار يتغذى الآن على معلومات وتقارير وتقديرات، تقلل من شأن الفجوة الديمغرافية في الضفة الغربية، يتحدث نشطاؤه عن ميزان ديموغرافي بدأ يميل لصالح اليهود الذين يتكاثرون بسرعة في الضفة الغربية (بالولادة والإستيطان) مقابل تراجع في معدلات الخصوبة وأعداد المواليد بين الفلسيطنيين، فضلاً عن عوامل النزوح والهجرة للخارج التي تفعل فعلها في أوساطهم...هذا التيار مؤمن بأن سنوات عشر على الأقل، ستمضي على العرب وهم منصروفون إلى “ربيعهم” تاركين القضية الفلسيطينية في أسفل قائمة أولوياتهم، أما المجتمع الدولي، فأعجز من أن يفرض حلاً على إسرائيل وهو منشغل على أية حال بأولويات أخرى.
إذن، الجدل الجدي الوحيد الدائر في إسرائيل وبين تياراتها الرئيسة يدور حول ما إذا كان يتعين على الدولة العبرية، أن تضم “كل الضفة الغربية” أم نصفها...لا أحد يجادل حول الإنسحاب إلى خط الرابع من حزيران...لا أحد قلق من ذهاب الفلسطينيين إلى الأمم المتحدة (هذا القلق موجود ومضخم في مخيلة بعض رجالات السلطة والناطقين باسمها لأسباب الذين يبدون بأمس الحاجة لأي انتصار، حتى وإن كان وهمياً وعلى الورق).
لا خشية إسرائيلية حقيقية من انفلات الوضع الفلسطيني وخروجه عن السيطرة، طالما أن الإنقسام الداخلي، نجح حتى الآن، وليس ثمة ما يحول نجاحه في المستقبل، في تحويل كل طرف من طرفي الصراع على السلطة في غزة ورام الله، إلى “حرس حدود” لإسرائيل، إن كان ذلك يخدم مصالحه وهدف بقائه متربعاً على عرش السلطة والحكم هنا أو هناك...الضفة غاضبة، ولكن عضبها منصب على عباس وفياض، ومن يريد عباس وفياض على أية حال...وغزة ما زالت تلعق جراحها، وصراعات حماس مع فتح، تتحول إلى تنافس محموم بين أجنحة حماس وتياراتها على السلطة والزعامة و”حفظ الإستقرار” و”إدامة الإنقسام”...هذه تقديرات تضرب في مخيلة صناع القرار في إسرائيل، وإن كان بعضهم يأخذها ببعض التحفظ أو كثير منه، وما زال يتحسب لشتى الإحتمالات، حتى غير المرئي منها.
منذ أن أظهرت القيادة الفلسطينية في رام الله عجزاً ملحوظاً عن اجتراح البدائل لخيارها التفاوضي السقيم، ومنذ أن تكشفت الحركة الوطنية الفلسطينية عن إخفاق بنيوي في إعادة تجديد ذاتها وبرنامجها وقيادتها واستراتيجيتها، بدت إسرائيل شديدة الطمأنينة، وهذا ما يفسر انفتاحها على العمال والسائحين ورجال الأعمال الفلسطينيين، الذين تتكرس يوما “إعتماديتهم” على إسرائيل وتبعيتهم لدورتها الإقتصادية.
ومنذ أن غادرت حماس خيار المقاومة، وتحولت إلى سلطة تقاتل في سبيل بقائها واستقرارها، وتفي بالتزامات وتعهدات من سبقها، بالفعل (دع عنك الأقوال والتصريحات)، خرج قطاع غزة من دائرة التحسابات الإسرائيلية الأولي، ولم يعد مصدر تهديد أو حتى إزعاج للكيان الإسرائيلي...هذا المصدر إنتقل إلى سيناء الآن، ومن يتتبع الجدل في مستويات الأمن والسياسة في إسرائيل، يدرك كم أصبحت صحراء سيناء وبدوها، يحتلون من مساحات في أولويات التفكير والتخطيط الإسرائيليين.
لقد سقط “أوسلو” وسقط “حل الدولتين”، وبسقوطهما لم تعد عملية السلام بحاجة لأكِر من شهادة وفاة رسمية حتى تستَكمَلَ إجراءات دفنها...هذه الحقيقة يعرفها الفلسطينيون على ضفتي معادلة الإنقسام، لكن أياً منهم لا يتصرف بهديها أو “يبني على الشيء مقتضاه”...
( الدستور )