عن جمال عبدالناصر في ذكرى رحيله

غداً.. تنقضي اثنتان وأربعون سنة على غياب جمال عبدالناصر، بكل ما ترتّب هذا الغياب من أكلاف واستحقاقات، وما حفل به المشهد العربي-بعد رحيله-من متغيرات وارتباكات وخيانات، لم يتورّع من ادّعوا انهم على دربه سائرون، عن مقارفتها علناً والأكثر مدعاة للغضب وليس للدهشة وحدها، أنهم وجدوا من يبرر لهم هذه الخيانات ويصدر الفتاوى لمساندتها ولم يخجلوا عندما أداروا لأبرزهم (السادات)
مهرجانات التفخيم والتعظيم وخلعوا عليه ألقاباً وألبسوه عباءات التقوى وراحوا ينادونه بـ»الرئيس المؤمن» وهو استخدمهم ووظفهم بعد ان أخرجهم من السجون وتغاضى عن كون الفصيل الأكبر فيهم وهو هنا جماعة الإخوان المسلمين «جماعة محظورة» بحكم القانون، إثر لجوئها إلى العنف لتحقيق أهداف سياسية، بل ذهبت بعيداً عندما شرعت في تدبير مؤامرات لاغتيال جمال عبدالناصر وتدبير المؤامرات الانقلابية، ووُجِد بينهم مفكّر ومنظّر كفّر عبدالناصر وأباح قتله وسحب «الشرعية» عن دولته، فأوصلته «أعماله» إلى حبل
المشنقة، وإن شَكّل الإعدام في حد ذاته، خصماً من رصيد عبدالناصر وثورة 23 يوليو، ولم يكن في حاجة إلى كل حملات التجني والتجريح والإساءة التي ما تزال حتى اللحظة، تشن عليه (عبدالناصر) رغم أنه غاب جسدياً عن هذه الدنيا الفانية قبل عقود طويلة، وها هم الذين جلسوا في موقع «الضحيّة» سنوات طويلة، يُحكمون قبضتهم على مصر ويواصلون تنفيذ مشروعهم الكبير بـ»أخونتها» وبسط سيطرتهم عليها والعمل في الآن ذاته على طمس إنجازات ثورة 23 يوليو وإهالة المزيد من التراب والإساءات على تراث زعيمها، في انعكاس مَرَضي لاحقاد دفينة ما يزال اخوان مصر (وكل جماعات الاخوان في العالم العربي) يختزنونها في قلوبهم وذاكرتهم ضد جمال عبدالناصر وثورة 23 يوليو.
ولعل ممارسات الرئيس مرسي بعد تسلمه السلطة رسميا في 30 حزيران الماضي حتى الان، تشكّل المثال الابرز على مثل هذا الحقد الذي لا يغادر قلوب هؤلاء الناس، فالرجل الذي ما كان له ان يفوز بموقعه هذا، لولا دعم الفئات الوطنية واليسارية والناصرية التي رفضت ان تكون الرئاسة لمرشح الفلول احمد شفيق، غاب عن الاحتفال بالذكرى «الستين» للثورة ولم يزر ضريح عبدالناصر (على ما جرت عليه عادة السادات وحسني مبارك رغم ما قارفاه ضد عبدالناصر وتراثه)، ومعروف ان لهذا الرقم (60) في الاعياد الوطنية والاستقلال والثورات، مكانة خاصة ووقعاً مختلفاً، لكنها الاحقاد التي لا تغادر القلوب وتستقر في الذاكرة المغلقة رغم الرطانة عن التسامح والوسطية والاعتدال وغيرها من المفردات التي تواصل هذه الجماعات ترديدها على الالسنة فقط ولم تدخل قلوبهم ذات يوم.. بل إن الرئيس الذي لم يكد يجلس على مقعده، راح يتندر على الثورة ويُصفّي حسابات جماعته معها عندما قال «الستينات وما ادراك ما الستينات» في غمز واضح من قناة 23 يوليو وزعيمها، رغم علم الجميع ان سجل جماعة الاخوان المسلمين المصرية ابعد-في تلك الفترة بل وبعدها-ان يكون سلميا او مدنيا بقدر ما كان تحريضيا وتآمريا وتشكيكا.
لا تغرّنكم العبارة التي قالها مرسي في خطبته امام مؤتمر عدم الانحياز بطهران عندما قال: «إن عبدالناصر كان يعبر عن ارادة الشعب المصري في كسر الهيمنة الخارجية وكانت مصر هي الدولة التي ساعدت الكثير من الدول منهم دول عدم الانحياز وتنادي بحقوقهم»، فالرئيس مرسي لم يأت بجديد ودور عبدالناصر في الخارج كما في الداخل لا يستطيع احد ان يطمس عليه او ينكره او يتجاوزه بل لا نذهب بعيدا اذا ما قلنا ان مرسي اراد التدثر بعباءة عبدالناصر، كي يستمد بعض الشرعية التي يحتاجها، بعد ان بدأت سياسة مرسي الخارجية (دع عنك الداخلية) تتكشف للجميع، وراحت تفاصيل الصفقة «التاريخية» مع واشنطن، تُرْوى على لسان اكثر من مصدر وصحيفة وفضائية وهي نقيض كل سياسات عبدالناصر الذي وقف طودا شامخا في وجه محاولات الهيمنة والوصاية والاستتباع ودفع ثمن ذلك بمشاركة فاعلة وميدانية وخصوصا اعلامية من اطراف عربية، لم يكن «اخوان مصر» بعيدين عنها.
في ذكرى رحيل عبدالناصر يجدر بالذين ما يزالون يناصبوه العداء، ان يخرجوا من هذا المتراس الذي مكثوا فيه طويلاً، ولم يجلبوا لانفسهم مجدا او نصرا، وها هم الان وهم «يرثون» مصر التي ما كان لتكون على النحو الذي هي عليه الآن لولا ثورة 23 يوليو التي قادها جمال عبدالناصر.. فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّا.
( الرأي )