محمد المستريحي يكتب : العبط ذاته والرعي و \"الرغي \" بلغ منتهاه الأقصى

المدينة نيوز - خاص - كتب: محمد المستريحي : - أسئلة كثيرة تراودنا، مشنوقة على طاولة الاستفسارات المتعددة، لمعرفة سر غياب \"المجتمع \"، وأسباب استقالة \"الناس \" مِن الحياة العامة، وضعف المؤسسات والأحزاب، وجدوى تكسير النخب الفاعلة والنزيهة، ونشوء طبقات جديدة مِن \"الانتهازيين \"، وشيوع ثقافة \"إكسب وأهرب \"، وتراجع هيبة الدولة في عيون الناس، وأسباب أن يُغير \"المعارض \" فجأة رؤاه السياسية وفقاً لعلاقة المصالح المتداخلة والمتبادلة فتتبدل المواقف والأفكار؟؟!!، ونصدق بالقول أننا حاولنا البحث عن قيم للنظافة والاستقامة، فإستعصت علينا حيلة البحث أو العثور، فكم مِن شخص كان على خير وإستقامة، فلما وصل إلى كرسي المسؤولية تَغّير وما غَيّر، وتَبدّل وما بدّل، وأساء وما أحَسن!!.. وبعد عناء تفكير وتدقيق وتمحيص، إكتشفنا أن الدولة أكلت أبناءها، ونَسَبت إليها أبناءً جدداً لم يخرجوا مِن رحمها!!.
الناس البسطاء الذين تعبوا مِن أجل خدمة بلدهم، والتزموا بواجباتهم، واعتبروا الوطن كل شيء، ووقفوا خصماً للنفاق والمحسوبية، ولم تلوث أيديهم ضد مصلحة البلد، اكتشفوا أن غيرهم أُسندت لهم المواقع والمناصب، وقد جمعوا ثروات طائلة بطرق مشروعة وغير مشروعة، وأصبحوا مِن أهل الحَسب والنَسَب، وأخذوا يورثونه لزمرتهم و \"نطفهم \" الداخلية للحفاظ على \"سلالتهم \" مِن الانقراض وذلك في ترسيخ لاستمرارية \"التفريخ \" الإجباري، منذ عهد جد جدي و \"جدكم \"، حتى أصبح الوطن حرث لهم فيأتوه مِن حيث ما شاؤوا.. بينما مَن التزموا بقيم النظافة والاستقامة، كانت \"ضريبة \" صمودهم وصبرهم باهظة، عاشوا على الرغيف \"الحاف \"، وأصبح المطلوب منهم أكثر مِن قدرتهم، و \"الفقر \" عشعش في بيوتهم.. ثم كانت النتيجة \"حرمانهم \" مِن أي نصيب يستحقونه، ونسيانهم مِن أي \"مولد \" يُقام للتكرم.
اذا كان الحديث في هذا الشأن لا يروق للبعض، على إعتباري متشائماً، فما على مَن يريد أن يفهم ما حدث للأردنيين، وأن يعرف ماذا يريدون، وأن يفك \"ألغاز \" ما نراه في المشهد العام، إلا أن يفتش في \"معادلة \" الدولة، وهذه التي نحتاج اليوم لإعادة النظر فيها، لتصبح قائمة على أساس العدل والكرامة والمواطنة الحقة والمسؤولية، لا مجرد قوانين عرجاء، أو دائرة ضريبية، أو بحر عميق لا يترك فيه \"الحيتان \" مكاناً لبقاء سمكة واحدة.
في الدولة المدنية الحديثة، تحرص مؤسساتها على المحافظة على كل روح تمشي على أرضها، تتعامل مع كل جسد على أنه ثروة، مع كل حياة على أنها استثمار، تتمسك بالوجود الإنساني لأنه الوحيد الذي لا يفنى، ولكن حين تتجرد \"الدولة \" -بفعل بعض الذين نزلوا بـ \"البراشوت \" على مفاصلها- مِن دور \"الأبوة \" المفترض أن تمارسه مع أبنائها على ميزان العدالة والمساواة، فإنها حينئذٍ تتحول الى \"طرف \" في النزاع، وهدف للعقوق، وسبب للجنوح نحو العنف.
وما لم يفهمه القائمون على الأمر، أو لعلهم ينكروه، لأن أحداً لم يستفد مِن الدروس، أن مضمون الواقع، واضح ومُعلن، ملخصه، أن الكيل طفح وطفا إلى السطح، وأنه لم يعد مجدياً الحديث عن الكفاءة والنظافة أمام اجتياح الرداءة والفساد لكل دواليب الحياة، بحيث أصبحت وسائل محاربة الفساد هي نفسها أدوات لتوزيع الفساد على نطاق واسع، لذا فإن صاحب الحاجة لحوح، والحقُّ لا يضيع ووراءه مطالب، والأردنيون يتطلعون إلى حفظ حقوقهم كاملة مِن التَّعليم والصِّحة والعمل والمال والمناصب، بلا ذلَّة ولا شفاعات، أو المنَّة ببعض المكتسبات، ومِن حقهم أن يستشعروا أن هيبة دولتهم مستمدة مِن هيبتهم وكرامتهم، ومِن قيمة العدالة التي يتوحد أمامها الجميع دون استثناء.
إن الحقيقة التي لا تحتاج إلى مَن ينكر وجودها الصادم، هي أن المخاطر تحدق بالبلد، ولا يجوز أن يبقى القائمون على الأمر \"غائبون \"، وأن تبقى الحالة و \"الحانة \" على الملامح نفسها، وأن يستمر العبط ذاته، حيث الرعي و \"الرغي \" بلغ منتهاه الأقصى، لذا فإن وضع البلد يستدعي علاجاً عاجلاً، فمشاكل الدولة وهواجسها وكوابسها السابقة والقادمة تنطلق مِن \"تحت \"، حيث \"الغليان \" مكانه قاعدة الشيء، وإن بدا أنَّه ساكنٌ لا يثور.