منطق الهضم ومنطق البلع

الثورات التي اجتاحت عالمنا العربي - منذ عامين - لم تضع اثقالها بعد، صحيح ان ثمة انظمة قد سقطت، واحوالاً تغيرت، وحراكات واحزاباً انتقلت من “المظلومية” الى “المسؤولية”، لكن الصحيح ايضا ان هذه كلها مجرد مخاضات، او ان شئت “بروفات” لتمارين مستمرة، وتحولات قادمة، وجولات متكررة.. تماماً كما حصل في البلدان التي سبقتنا بقرون طويلة الى اشهار ثوراتها: أمريكا واوروبا والصين وغيرها.
جولة “التحولات” في مصر - مثلا - بدأت بسقوط نظام مبارك، لكنها لم تنته بقدوم “مرسي” الى الحكم، فقد شهدت ميادين مصر في الايام الماضية “انتفاضات” شعبية شبيهة بالتي رأيناها في شهر يناير من العام الماضي، وجولة “التحولات” في تونس - ايضا - ما زالت مستمرة، حتى بعد ان توافق الاسلاميون والعلمانيون والقوميون على اقتسام “السلطة”، وفي بلدنا ما زالت “المسيرات” والاحتجاجات تخرج على مدى عامين دون ان تهدأ اصوات الناس عن المطالبة.. ويمكن ان نستمر في ضرب الامثلة على كافة بلداننا العربية.. ابتداء من البحرين الى سوريا الى المغرب.. والباقي ما زال في دائرة الانتظار.
فقه الثورة لمن لا يعرف لا يقتصر على سقوط الحكومات وانما يتعلق بسقوط “الافكار” واذا كانت الجولة الاولى اسقطت افكار الاستبداد والفساد من “عقل” المواطن العربي، فان بناء افكار العدالة والديمقراطية والنظافة يحتاج الى جولات وصراعات اخرى..
قد لا تكون المجتمعات العربية اليوم، بعد الضربات التي تعرضت لها في العقود الماضية، جاهزة لبناء هذه المنظومة من الافكار وامتحان الاشخاص الذين يتعهدون بتنفيذها، لكن ثمة اشارات لا تخطئها العين تؤكد ان الانسان العربي ودّع الى غير رجعة عهود “الرق” والخوف، وعرف طريقه الى الحرية، وادرك بفطرته ان التاريخ بدأ من جديد.. وانه وحده من يمتلك حق كتابته وصناعته ايضاً.. ومن المؤكد انه مثل غيره من البشر سيكون جاهزا بعد ذلك “للبناء”.
بوسع الذين يشعرون بأنهم انتصروا في “الجولة” الاولى، او تجاوزهم تيار “المدّ” او انهم نجحوا في “التحايل” عليه ان يفتحوا اعينهم على “حركة” المجتمعات في بلدانهم وفي محيطهم، ليروا كيف بدأت عجلة الشعوب تتحرك، وكيف تغيرت افكارهم واستعادوا وعيهم ولم يعودوا - كما خبروهم فيما مضى - شعوبا خائفة تقبل القليل وترضى بالمطروح وتنحاز الى “الطاعة” وتكتفي بالدعاء للحكومات “الرشيدة” بطول البقاء.
ما حدث في عالمنا العربي ليس حدثا عابرا، وانما تحولات تاريخية لها جولاتها التي لن تتوقف عن دولة، اية دولة، مهما كانت حصانتها السياسية متينة، واخطر ما فيها ان تحولات اصابت “وعي” الانسان وافكاره وخياراته وموازين الحكم لديه، وبالتالي فانها مفتوحة على كل الاحتمالات.. فالافكار اقوى من الرصاص، ومن يؤمن بفكرة، مهما كانت، قادر على صناعة التغيير.. ومن غير الممكن ان يتوقف او يتنازل او يقبل بالهزيمة.
الجولة الاولى من “التحولات” انتهت، لكنها لم تطوِ الصفحة، فأمامنا جولات اخرى، قد تطول وقد تكون قريبة، لكنها - بالتأكيد - قادمة، وعلى من يريد ان يكسب “جولته” ان يتكيف مع شروط اللحظة واستحقاقاتها، وان يتعامل معها بمنطق “الاعتراف” لا “الافكار” وبمنطق الهضم لا البلغ، وان يذهب بعد ذلك الى العناوين الصحيحة التي تضعها “الشعوب” لا العناوين الخاطئة التي ينصح بها الآخرون الذين هم - اصلا - جزء من المشكلة! ( الدستور )