حقيقة التحضّر وجوهر التمدن

تسير المجتمعات البشرية نحو التحضر والتمدن بشكل حثيث ومستمر، وتتفاوت المجتمعات بمستوى التحضر بمقدار ما تأخذ بأسبابه الحقيقية، وتمتلك أدواته وآلياته بطريقة صحيحة، تجعل من التحضر مرتكزاً أصيلاً وجوهرياً في أعماق النفس الإنسانية، ثم يتجلى بالسلوك والخلق القوي المرتبط بمنظومة القيم الحضارية النبيلة، الثابتة والمتجذرة في المجتمع البشري بشكل فردي وبشكل جماعي سائد.
من أبشع ما تمر به مجتمعاتنا العربية هو التمسك بقشور الحضارة وشكلياتها، دون أن يلامس شغاف القلب، ودون أن يتعمق في النفوس بشكل أصيل، فليس كل من ركب سيارة فارهة ثمينة متمدناً، وليس كل من استعمل أدوات الحضارة الحديثة متحضراً، وليس كل من يتكلّم اللغة الأجنبية راقياً، أو أكثر في حديثه من استخدام المصطلحات الغربية، كما أن التحضر لا يقتصر على حسن الهندام والمبالغة في التأنق وتناول أرقى الأطعمة وأغلاها.
التحضر يبدأ بالتمسك بالقيم النبيلة، وإلزام النفس بجمال الأخلاق وحسن التعامل مع الآخرين، واحترامهم بقدر احترام الذات، وأن يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه، فلا تظهر عليه علامات الاستعلاء على الخلق ولا التكبر عليهم، ولا يحتقر الناس ولا يميل إلى تفضيل نفسه عليهم ولا يطغى في حالة الغنى ولا يظلم إذا قدر.
التحضر يكون بالخضوع للعدالة، والإذعان للحق والالتزام بالنظام العام، ولو كان على نفسه أو أقرب الناس إليه، وأن يجهر بقول الحق ويتحمل كلفته، ويبتعد عن كل ألوان النفاق وأصناف المداهنة، وأن ينفر من التملق لأصحاب النفوذ وأرباب المال.
التحضر يتمثل بتفضيل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، والالتزام بمعاني خدمة الوطن، وأن يحافظ على المال العام أكثر مما يحافظ على ماله الخاص، وإذا تولى مسؤولية عامة فينبغي أن يكون بمقام الولي على مال اليتيم.
التمدن لا يقتصر على العيش في المدينة، فالسلوك الحضاري مظهر من مظاهر الثقافة التي تجعل الفرد يتصرف بطريقة حضارية قائمة على امتلاك فن التعامل مع الوجود سواء كان في الريف أو الصحراء أو المدينة، وكثير من سكان المدن يتصرفون بشكل متوحش قائم على الاستهتار بمشاعر الآخرين وإيذائهم.
والشيء الأكثر أهمية في هذا الموضوع أن التحضر لا يتم استيراده من المتحضرين عن طريق إحضار أدواته الحديثة ولا يكون بتقليد سطحي ساذج قائم على التكلف والتصنّع، وفي الوقت نفسه يمكن تعلّم فنون التحضر من العالم المتقدم، عن طريق تمثل قيم التحضر وثقافة التمدن والبحث عن الحكمة المرتبطة بالفكرة التي تحكم السلوك وتنظم التعامل مع الآخر.
لقد أراد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) منذ اليوم الأول لتأسيس المجتمع الإسلامي في دار الهجرة أن يقيم مجتمعاً متمدناً متحضراً، يتمتع بمنظومة القيم الإيمانية الراقية، ولذلك سمّى "يثرب" بـ"المدينة" كناية عن هذه الغاية، فعمل أولاً على ترسيخ معاني العقيدة السليمة التي تحترم العقل وترفع من مستوى الكرامة الآدمية، وعمل على إيجاد قواعد السلوك المجتمعي المتحضر القائمة على معنى المساواة في أصل الخلقة الآدمية، المرتكز على الآية القرآنية القائلة: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة)). وقال لهم نبيهم:" لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى".
المجتمع المتمدن هو المجتمع المتكافل المتعاون على البر والتقوى الذي تسوده قيم الأخوّة الحقيقية، وقيم التسامح وقيم الإيثار ويرسي معايير المفاضلة القائمة على العلم والحفظ والقوة والأمانة والتقوى والخلق الرفيع ومحاربة المعايير الجاهلية القائمة على المحسوبية والعصبية ومعايير القرابة والنسب والمنفعة الشخصية.
المجتمع المتمدن هو القادر على إعالة نفسه والاعتماد على الذات، الذي يجمع بين اقتصاد الكفاية والعدل والعمل والإنتاج وحسن التدبير والقدرة على الاستثمار، والمجتمع المتمدن هو الذي يجعل من العلم وسيلة للرقي وتحسين أدوات التعامل مع الكون وليس وسيلة لإلحاق الضرر بالآخرين.
أما القضية الأخرى التي تستحق الالتفات فهي أن الدين ينبغي أن يكون عاملاً أساسياً من عوامل التحضر الحقيقي والتمدن الصحيح والرقي الأصيل، على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع، وينبغي أن لا يقتصر التدين على القشور والمظاهر السطحية، فلا يجتمع التديّن مع الغلظة، ولا يقترن التدين مع التكبر على الآخرين، لأن التدين الحقيقي يزكي النفس ويحلّيها بالفضائل والأخلاق الجميلة التي تتمثل بحسن التعامل مع الخلق والخالق. ( العرب اليوم )