حكاية سلام فياض .. شخص أم منظومة؟!

بعد انتفاضة الأقصى التي سعى ياسر عرفات من خلال دعمها وتأييدها إلى التمرد على شروط أوسلو واستحقاقات سلطته المصممة لخدمة الاحتلال وليس مصالح الشعب الفلسطيني؛ بعد تلك الانتفاضة جيء بسلام فياض من أروقة البنك الدولي لكي يرمم ميزانية السلطة ويديرها على نحو “رشيد”.
كان هذا هو الشعار المعلن لفرض الرجل وزيرا للمالية، لكن الجوهر كان مختلفا، لاسيما أن ذلك لم يكن الشرط الوحيد لإعادة تأهيل ياسر عرفات كي يعود “شريكا تفاوضيا” بعدما تورط في العنف والدماء، وسرّب الأموال إلى خارجين على قانون سلطة أوسلو (إرهابيين بتعبير الصهاينة)، بل هناك شروط أخرى، أولها أن يكون محمود عباس رئيسا للوزراء بصلاحيات كاملة، وأن يكون محمد دحلان مفوضا للأمن، ما يعني “تشليح” عرفات لمصادر قوته (المال والأمن وحتى جزء من السياسة). والنتيجة هي وقف المقاومة وإعادة السلطة إلى مهمتها الأصلية في العمل كمركز شرطة يقوم على أمن المحتلين، وبلدية تزيح عن كاهلهم عبء إدارة السكان الفلسطينيين.
هذا هو الثلاثي الذي كان عليه أن يعيد ترميم واقع أوسلو الذي أصابته انتفاضة الأقصى بجروح بالغة، واضطر معها شارون إلى إدخال قواته من جديد (لا نقول احتلال، لأن الاحتلال لم يخرج تماما) إلى المناطق التي كان أعاد انتشاره خارجها (هذا هو المصطلح المستخدم في اتفاق أوسلو؛ إعادة انتشار، وليس انسحابا) خلال السنوات السابقة منذ عام 95 تقريبا.
كان على الثلاثي إياه أن يرتب لتغييب ياسر عرفات ووراثة السلطة، ومن ثم إعادتها إلى السكة الصحيحة كخادم للاحتلال، أولا- عبر مسار أمني يشرف عليه الجنرال دايتون ويساعده فيه دحلان، وثانيا- عبر مسار اقتصادي يشرف عليه توني بلير، وينفذه سلام فياض، وهو مسار لا هدف له غير إشغال الناس بقصص الرواتب والمال والأعمال وصرفهم عن كل ما يتعلق بمقاومة الاحتلال.
والحق الذي لا يماري فيه أحد أن الثلاثي قد حقق نجاحا مذهلا، إذ سيطر على كل شيء، ونفذ مسارا أمنيا واقتصاديا وسياسيا غيَّب المقاومة تماما من الساحة، وظل مراهنا على المفاوضات، فيما منح الصهاينة حالة أمن غير مسبوقة منذ مجيء الاحتلال قبل عقود.
بعد مناكفات وقصص ذات بعد شخصي، وأخرى ذات بعد سياسي خوفا من استمرار التلويح به كبديل جاهز، نجح عباس في إخراج محمد دحلان من المعادلة، وإن بقي فاعلا، بل مهيمنا على حركة فتح في قطاع غزة، مع استمرار الوساطات العربية لمصالحته مع رئيسه، لكن فياض بقي صامدا رغم الحملات المتقطعة عليه من قبل رموز حركة فتح، وهي حملات بعضها يتعلق بعدم استجابته لطلبات بعضهم المتكررة على الصعيد الشخصي، بينما يتعلق بعضها الآخر بالخوف من تأثير سياساته (سلبا) على شعبية حركة فتح التي تُحسب حكومته عليها حتى لو لم يكن فياض -شخصيا- منتميا إليها، لأن معلمه ومن عينه هو رئيس الحركة (إضافة إلى السلطة ومنظمة التحرير، وكذلك القائد العام للقوات المسلحة الفلسطينية!!). وظل فياض موجودا بقوة الضغط الخارجي من جهة، ولأنه لا يشكل منافسا لعباس، ولا وريثا للسلطة من جهة أخرى؛ هو الذي سيكون بلا قيمة تذكر دون الغطاء الذي يمنحه له عباس، وتبعا له حركة فتح.
فجأة، ودون مقدمات، نكتشف أن خبير البنك الدولي لم يترجم خبرته نجاحا عظيما، فالسلطة تنوء بحمل ثقيل من الديون (4 مليارات)، مع أننا نعرف أنها سلطة تعيش على المعونات الدولية، فيما يقوم نتنياهو ومن سبقوه بمنحها أموال الجمارك، وإن بقدر من الابتزاز والإذلال، مع مخصصات عربية معروفة، بعضها يأتي وبعضها لا يأتي.
بتعيين نبيل قسيس وزيرا للمالية، وجد سلم فياض أن ذلك استهداف شخصي له، إذ ماذا في السلطة العتيدة غير ملف المال (إلى جانب الأمن)؟! وازداد الأمر سوءا حين اتهم قسيس فياض بالفشل في سياسته المالية، ومن ثم تقديم استقالته التي قبلها فياض على الفور رغم مطالبة عباس له بعدم قبولها.
كان فياض يدرك أن “الطخ” عليه من قبل رموز فتح لم يكن ليتم لولا توفر ضوء أخضر من قبل عباس، وهو ما دفعه إلى الحرد (فعل ذلك من قبل) وتقديم الاستقالة على أمل أن تنتهي القضية بذات السيناريو التقليدي ممثلا في إرضائه وإسكات منتقديه، لكن ذلك لم يحدث، إذ قبل عباس الاستقالة.
يُقال: إن فياض سيؤسس حزبا ويبدأ نضالا في الساحة الفلسطينية (أي نضال؟!)، بينما كان حزبه السابق أو قائمته (الطريق الثالث) قد حازت على مقعدين في التشريعي (انتخابات 2006) من أصل 132 مقعدا. وسنرى إن كان ذلك سيحدث، أم سيعود إلى موقعه من جديد بضغوط الخارج.
حكاية فياض، والثلاثي إياه، هي حكاية قضية تم حرفها عن مسارها؛ من مقاومة الاحتلال، إلى تكريس سلطة تعمل في خدمته أمنيا وسياسيا واقتصاديا، وإلى أن يفجّر الشعب الفلسطيني انتفاضته الجديدة، ويتمرد على هذا الواقع البائس، سنظل نتابع أخبارها وأخبار حكوماتها بكثير من الحزن والقهر. ( الدستور )