ظهيرة حزيرانية أخرى!

حتى النيل والنخيل يخرجان عن صمتهما في هذه الظهيرة المصرية التي لا ينتصف بها نهار واحد فقط، بل حقبة اندفع فيها كل شيء الى اقصاه، وكأن موعداً لتسديد الديون التاريخية كلها قد أزف.
انها ايضاً ظهيرة حزيرانية لكن ليس من أجل الحداد الذي يعلن كل عام في الخامس من هذا الشهر الحزين، ملايين المصريين الآن في الشوارع والساحات، ولأول مرة يعلو صوتهم على هدير النيل الذي اصبح لأول مرة يعيد النظر في منابعه ويخشى ان لا يجد المصب.
هتافات وهتافات مضادة، وكأن بياناً وقعه أكثر من خمسة عشر مليون مصري يعلن ان القيامة المؤجلة اصبحت وشيكة، فالحراك الملغوم الذي خذلته البوصلة راوح عامين ونيفا، ما بين الثورة واختطافها وما بين رغيف الضرورة ووردة الحرية.
فالشعار الذي طالما رفع في فضاء مصر هو أقانيم الحياة ذاتها، رغيف وكرامة وحرية، ومصر من أكثر شعوب العالم التي عانت من الفرعنة المزمنة، ولاذت بالعسكر ثم لاذت منهم بسواهم، لأن المكبوت التاريخي طويل وعمره ألفيات وليس قروناً أو عقوداً، وما كان فصل الختام أو ظنه من اساؤوا قراءة المشهد هو الآن فاتحة.
فمن هذا الاحتدام رغم كل ما ينذر به من وداع للسلم الاهلي تولد الشرارة ومن ثم الحريق الذي يأتي على الهشيم كله، فالاخضر الطري لا يقبل الاحتراق، والنيل قد يضن على الحرائق بالاطفاء لأنه الآن يتحسس مجراه ويدخر ماءه لكن في سدّ لم يعد عالياً وفي زمن عربي سادت فيه الرطانة، وأصبحنا نُعرب الفاعل مفعولاً به، والدراما المصرية التي تبث هذا اليوم باللحم الحيّ عبر كل فضائيات العالم ليست من ثلاث عشرة حلقة أو حتى من مئات الحلقات كالدراما التركية، والسينارست ليس كاتباً محترفا واسع الخيال وقادراً على استدرار دموع ربات البيوت، انه شعب قرر ان يكتب السيناريو بما تيسر له من شقاء وما تعسر له من حرية وهو يقطع عدة مستنقعات.
ان مصر اليوم هي سؤال العالم الذي ضاق بجلده القديم فخلعه، وهي الاختبار الحاسم لاطروحات تبشر ببلوغ الشعوب سن الرشد، فهي رغم كل ما ألم بها وأعادها الى غمدها الصحراوي تبقى البارومتر الذي يقيس منسوب الحيوية والخمول في العالم العربي، لهذا فهي الآن مغناطيس الصحافة والفضاء، والعيون ترنو نحوها والجميع لا يكفون عن الرجاء بأن لا تأكل مصر نفسها، وتنسى في غمرة هذا النزاع انها مهددة بالظمأ والتصحير وأن صلاة الاستسقاء ليست هي الحل لأنها تتوكل ولا تعقل!
ستغرب شمس هذا اليوم في الأفق المصري كما يحدث في سائر الأيام، لكن ما سوف يبقى مضيئاً رغم الغروب وانقطاع الكهرباء هو عيون أطفال لهم الحق كسائر اطفال العالم في الحياة.
حرام ان يحدث هذا كله لمصر لأن لها أعداء يرون في هذا الحرام حلالاً وبشائر، وقد لا يكون هذا النهار أطول أيامها لكنه بالتأكيد ليس مجرد يوم حزيراني آخر. ( الدستور )