مهرجان جرش بين «أعداء الحياة» وصنّاعها!

لا يوجد لدى أحدنا - مهما كان فكره أو موقفه - وصفة جاهزة “للحياة الطيبة” لكي يفرضها على الآخرين، صحيح أن لكل منا تصوره الخاص لهذه الحياة بتفاصيلها المختلفة، ومن حقه أن يمارسها ما لم يتعد على قيم الهوية الجمعية التي تحفظ سلامة المجتمع، لكن الصحيح أيضا أن هذا التصور يبقى في إطار “المجال الخاص” الذي لا يجوز فيه القهر ولا الإكراه، إلا إذا انحرفت “الممارسة” فعندئذ يكون القانون هو الفيصل والحكم.
أمس انتقد صديقنا العزيز الأستاذ فهد الخيطان في مقالته بالزميلة “الغد” موقف بعض اخواننا “الاسلاميين” الذين تعرضوا لمهرجان “جرش” ووصفوا رواده بأوصاف لا تليق، لكن ردة فعل الخيطان لا تختلف كثيراً عن ردود الفعل التي انتقدها، فقد وقع الطرفان - مع الاحترام لهما - في “فخ” القسوة ذاتها، ذلك ان وصف المهرجان بـ”الفجور” لا يختلف عن وصف من يقفون ضده بأنهم “اعداء للحياة”، والقسوة هنا لا تتعلق فقط باستسهالنا للتعميم واصدار الأحكام وفرضها على الناس، بل ايضا بمجازفة البعض منا الى احتكار الصواب ومنع الرأي الآخر، واعتماد “وصفة” واحدة للحياة “الطيبة” التي يختزنها الفن والطرب وحدهما دون أوجه “الزينة” الأخرى والجمال المبثوث في الكون، تلك التي استنكر الله تعالى منعها على الناس أو تحريمها عليهم.
وإذا كان الكاتب الخيطان قد تسرع بوصف هؤلاء “بأعداء الحياة” فإن هؤلاء ايضا اخطأوا حينما اندفعوا الى “تحريم” المهرجان، وحين اعتبروا انفسهم “حراساً” على قيم المجتمع، وحين اتهموا رواده بـ”الفسق والفجور”، ذلك ان اسوأ ما يطالعنا به هذا الخطاب هو ان البعض من المحسوبين على “الدين” لا يفرقون بين “موعظة” المسجد التي تتوجه الى الناس بالحث على الطهارة والسمو والتقوى وبين “موقف” السياسي الذي يفترض ان يتعامل مع الواقع، وان يتوجه للمجتمع بما هو عليه لكي يصفه بـ”النموذج” الذي يستطيع ان يحوله الى “مدافع” عن قيمة، بالرضا لا بالإكراه، وبالحسنى لا بالتجريح والإدانة.
مشكلة هذا الخطاب “التحريمي” ايضا هو انه يترك “المجال العام” ويتدخل في تفاصيل “الشأن الخاص”، مع انه يفترض منطقياً ان تصحيح “العام” سيقود حتماً الى اصلاح “الخاص”، بمعنى ان الأولوية هنا لا تتعلق “بإدانة” المهرجان وإلحاق الأوصاف غير المقبولة بمن يرتاده، بل تتعلق بـ”إقناع” الناس بعدم جدوى هذا المهرجان (سواء لأسباب اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية) واذا ما حصل ذلك فإن الناس انفسهم سيحجمون عن الذهاب اليه، وهنا يفترض من ان يسأل هؤلاء انفسهم: لماذا تمتلئ المدرجات بالمستمعين والمستمعات؟ ثم ماذا فعلتم وقد خلّي بينكم وبين الناس لعشرات السنين لكي ترشدوهم الى الصواب الذي تعتقدونه؟
مشكلة هذا الخطاب ثانيا انه لس ضد الحياة، كما يتصورها البعض، بل ضد “مقاصد” الإسلام التي لا تمنع “الفن” لمجرد انه “فن” وانما تعتبره جزءاً من “الجمال” المشروع الذي يخضع لمعايير “المصلحة المتطابقة دائماً مع الشرع”، فالفن النظيف هو عبادة، كما ان الفن الرديء يصنع الحياة “التعيسة” والإنسان الشقي، والمجتمع - هنا - هو الذي يقرر ولا يحتاج الى “حراس” عليه أو ناطقين باسمه.
مشكلة هذا الخطاب - ثالثا - هو أن القائمين عليه يتصورون أن تطبيق “الشريعة” سواء في مجالات الفنون أو الحريات الخاصة أو الحدود أو حتى الحكم، هو الأصل، فيما الحقيقة ان هذا التصور ملغوط، أو إن شئت معكوس في ترتيب الأولويات، فالأصل ان مجتمعاتنا تلتقي على “الإسلام” كمشترك، وقد تفترق امام تطبيق الشريعة والأولى أن نجمعها ونوحدها على المشترك، بدل أن ندفعها الى “الانقسام” على المختلف عليه، والفنون هنا من المجالات المختلف عليها، في مقابل “الحريات” المتفق عليها، والثانية اهم من الاولى، ذلك ان منح المجتمع ما يلزمه من حرية سيمكنه من اختيار الأفضل، ومعرفة الأصلح.
باختصار، يمكن ان نختلف حول جدوى مهرجان جرش، أو حول “وصفة” الحياة التي تسعد الناس، أو حول “مشروعية” الفنون، لكن ما لا يجوز ان نختلف عليه هو حق الآخر في التعبير عن رأيه بلا إساءة أو تجريح، وحق المجتمع بالحفاظ على قيمة بلا قهر ولا إكراه، وحق الناس في “التمتع” بحياتهم وعدم التدخل في خياراتهم الخاصة ما لم تتصادم مع “القيم” العامة التي تشكل هوية المجتمع.
إذا اتفقنا على هذه “المسطرة” فإن ثمة نقطة غابت عن الحوارات التي جرت بين من وصفوا انفسهم بـ”صناع الحياة” والآخرين الذين اتهموا بأنهم “اعداء الحياة”، وهي احترام الاختلاف والالتزام بأخلاقيات الخصومة، وتجنّب “القسوة” في الرد والاستعجال بإلقاء التهم! ( الدستور )