سهولة مصر وامتناعها!

حاورت خلال ثلاثة عقود على الاقل اصدقاء مصريين من مختلف شرائح المجتمع، منهم ساسة وجنرالات متقاعدون وادباء ومفكرون وباعة متجولون وبوابو عمارات بحيث اتاح لي ذلك ان تتشكل لدي رؤية بانورامية عن مجتمع يجسد معمار الاهرام فيه قمة التراتبية وذلك تبعا لفلسفة حديثة ترى في المعمار مدخلا نموذجيا لقراءة الثقافات والتشكلات الاجتماعية.
للوهلة الاولى تبدو مصر كما لو انها ملقاة على السطح، واضحة ومقروءة لكن هذه المقاربة السياحية التي تورط بها الكثير من العرب ليست دقيقة، ولا تصمد طويلا امام مقاربات اعمق، فهذا البلد الاطول عمرا في التاريخ مسكون بالماضي، وفيه ربع الاثار الموجودة في كوكبنا، وهو بالفعل سهل وممتنع، اما السهولة فهي من تزاوج فريد بين التاريخ والجغرافيا ومن خصائص بيئة ذات اثر بالغ على التكوينات النفسية والاجتماعية والاقتصادية على الناس. فمصر كلها تحتشد على اربعة بالمئة فقط من مساحتها، لان النيل ليس فقط شريان الحياة فيها بل هو من رسم تضاريسها الاجتماعية وقد يلعب دور البطولة في حروب مائية قادمة طالما حذر منها خبراء ومشتغلون في هذا الحقل. والجغرافية ليست صماء او مجرد خرائط صامتة، انها احيانا التاريخ ذاته وقد اصابه التصلب فتحول الى تضاريس، وسبق لعالم الجيوبولتيك الذي مات في شقته في ظروف غامضة د. جمال حمدان ان اصدر العديد من الكتب عن عبقرية المكان، وقدر بعض البلدان الذي تفرضه عليها الجغرافيا.
مصر.. في ازمنة الخضوع القسري والاستنقاع السياسي اضافة الى فائض البطالة والفقر كانت تتيح لمن يكتب عنها ان يتذكر ما قاله عمرو بن العاص عن الناس والتراب لكن وراء الاكمة الصامتة او تحت السطح الهادي لنهر يجري ببطء وعمق من الصخب والمخزون وقابلية العصيان ما يغمر قارة. وما يسميه الفيلسوف هيجل مكر التاريخ يصدق على مصر الى حد كبير لانها تفاجئ المؤرخ والمشاهد بتغيرات عاصفة تقلب الموائد كلها، لان الصبر هو نتاج شقاء معتق منذ الفرعون الاول، لهذا كتب نجيب محفوظ رواية ذات دلالات بالغة العمق في تصوير الشخصية المصرية هي حضرة المحترم وهذه الشخصية من النمط الادخاري الذي يحذف الفارق بين حدود الحياة وحدود الموت.
ومقولة السهل الممتنع التي طالما اقترنت بالادب والتعبير لها تجليات اجتماعية وسياسية، في مصر او غيرها من البلدان.
لهذا كان بؤس القراءات السياحية لبلدان مثل العراق ومصر ناتجا عن الخلط بين السهولة الظاهرة على السطح والامتناع الهاجع في الاعماق! ( الدستور )