«أقلمة» الحرب في صعدة

صنعاء تتهم إيران بدعم ما تسميه "التمرد الحوثي" بالمال والسلاح ، والحوثيون يتهمون السعودية بالدخول إلى ساحة "الحرب السادسة" المندلعة منذ ثلاثة أسابيع في مناطقهم الوعرة من بوابة سلاح الطيران والغارات الجوية... وبصرف النظر عن جدوى وجدية هذه الاتهامات المتبادلة ، فإن المواجهة في منطقة صعدة ومحيطها ، تنذر بتحوّل نزاع محلي مفتوح منذ أكثر من خمس سنوات ، إلى نزاع إقليمي النطاق ، وخط تماس جديد متفجر بين العرب والإيرانيين.
أزمة صعدة المتفاقمة ، ما كان لها أن تتصاعد على هذا النحو الخطير والواسع ، لولا تضافر جملة من الظروف والعوامل المحلية والإقليمية ، فما يجري في هذه الرقعة منذ سنوات ، هو صورة عمّا يمكن أن تؤول إليه "الدولة الفاشلة" التي تعجز عن حل نزاعاتها المحلية ، وفرض سلطة الدولة على جميع مناطقها ، والحكم بين الناس بالعدل ، وإن بمعايير الحد الأدنى منه ، وهو نموذج لما يمكن أن تتسبب به دول من هذه الشاكلة والطراز ، من "صداع" لدول الجوار القريب والبعيد ، ومن تهديد للأمن والاستقرار الإقليميين.
وما يجري في صعدة ما كان له أن يتصاعد على هذا النحو ، لولا وجود إرادة لدى بعض الأطراف الإقليمية لتحويل صعدة خصوصا واليمن عموما ، إلى ساحة أخرى من ساحات المواجهة "وتسوية الحساب" بين بعض العرب وحلفائهم من جهة ، وإيران وبعض حلفائها من جهة ثانية ، لكأنه لا تكفينا الساحات وخطوط التماس القائمة والممتدة من العراق إلى لبنان ، حتى نفتح بأيدينا ساحات جديدة ونشعل خطوط تماس إضافية.
والحقيقة أنه من دون "العامل الإقليمي" ، فإن الصراع في صعدة وحولها وعليها ، ما كان له أن يأخذ هذا المنحى التصعيدي الخطير ، الذي يذكّر إلى حد كبير ، بالطريقة التي اشتعلت بها أزمة دارفور والتي تفاقمت كما هو معروف بفعل التدخل الدولي الكثيف زمن إدارة جورج بوش الابن ومحافظيه الجدد ، لتعود مؤخرا إلى هدوئها وسابق عهدها وإيقاعاتها بعد أن تراجعت النزعة الدولية التدخلية مع مجيء إدارة أوباما وتوجهها للقيام بدور إيجابي في التعامل مع أزمات السودان ، بديلا هم سياسة التجييش وتذخير البنادق.
لقد قدر لليمن ان يكون ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات بين المعسكرات والمحاور العربية والدولية في القرن الفائت ، وتحولت حرب اليمن في ستينياته إلى عنوان لانفلات المواجهة بين المعسكرين "التقدمي" و"الرجعي" بلغة تلك الأيام ، وها هو التاريخ يعيد نفسه بذات القدر من المأساوية والدموية ، ويتحول اليمن من جديد إلى ساحة مواجهة بين محوري "الاعتدال" و"الممانعة" بلغة هذه الأيام ومسمياتها ، وهي مواجهة يدفع اليمنيون أساسا أثمانها الباهظة من دم أبنائهم ولقمة عيشهم ومستقبلهم وأمنهم ووحدتهم الوطنية.
وثمة ما يدفع متتبعي المشهد اليمني بأزماته المركبة ومسارات حروبه وازماته المتوازية ، إلى الاعتقاد ، بأن "أقلمة" الصراع في "صعدة" هو في جانب منه ، تكتيك وسياسة حكوميان ، هدفهما استجلاب دعم أطراف إقليمية ضد أخرى ، واستنفار قوى محلية ضد أخرى ، فالحديث عن "دور إيراني" في الأزمة ، يستدعي حكما استعجال الدعم السعودي والعربي (المعتدل) ، والتهويل بخطر شيعي زاحف على اليمن ، يستفز السلفية بمختلف مدارسها ، ويحيل أنصارها جنودا متطوعين خلف القوات الحكومية ، ومشاريع انتحاريين في حرب صنعاء على صعدة ، الأمر الذي يوفر للنظام أوراق قوة يمكنه اللعب بها ، في مواجهة هذا الفريق أو لتحييد ذاك ، على أمل أن تنجح لعبة الإمساك بالعصا من منتصفها هذه المرة ، مثلما نجحت في مرات سابقة ، وعلى أمل النجاح هذه المرة أيضا ، في استثمار مخاوف وهواجس المكونات اليمنية والإقليمية المختلفة حيال بعضها البعض ولضرب بعضها بالبعض الآخر ، لكن يبدو أن "الجرة لن تسلم في كل مرة" ، واللعبة التي أريد بها الحفاظ على النظام وضمان إدامته وتوارثه ، تكاد تودي هذه المرة باليمن برمته ، وقى الله اليمن من كل مكروه.