عمر البشير إذ يستبدل التنحي بتأكيد التفرد بالسلطة

بضربة واحدة، تخلص عمر البشير من الرموز الثلاثة الأقوى في الدولة السودانية (علي عثمان طه، نافع علي نافع، الحاج آدم يوسف)، والذين كان يُنظر إلى أكبرهم علي عثمان طه بوصفه الرأس الآخر فيها إلى جانب البشير (مع أهمية كبرى للرجلين الآخرين)، والذي كان كثيرون يتوقعون أن تتكرر معه تجربة الرأسين التي انتهت بإطاحة الترابي الذي لم يكن للبشير أن يتخلص منه لولا دعم علي عثمان.
من هنا يمكن القول، إن تجربة الرأسين في حالة علي عثمان طه قد عمّرت اكبر بكثير مما تحتمله التجارب المشابهة حين يكون ثمة رأسان لسلطة ما، فهي بدأت منذ العام 99، ولم تنته إلا في العام 2013؛ ما يعود بشكل أساس إلى حنكة علي عثمان أكثر من تسامح البشير، إذ تمكن الرجل الشهير بذكائه وعقله الأمني من ترتيب الأمر على نحو لا يسمح للبشير بأن يطيح به بسهولة.
والحال أن من الصعب المقارنة بين دهاء علي عثمان طه، وبين بساطة البشير، رغم أن عقدين ونيف في عالم السياسة لا بد أن يكون لها دورها في صناعة شخصيته الجديدة (أعني البشير)، لكن ذلك ينطبق بالضرورة على علي عثمان أيضا، صاحب التجربة الكبرى والأكثر عراقة من الضابط الذي جيء به ليكون واجهة لانقلاب كان علي عثمان مهندسه الأكبر.
جرت مياه كثيرة في نهر الواقع السوداني منذ الإطاحة بشيخ الحركة (حسن الترابي)، وظل تحالف البشير- علي عثمان طه صامدا رغم العواصف الكثيرة التي مرت بها البلاد منذ اتهامها برعاية الإرهاب، مرورا بتطورات العلاقة مع الجنوب ومذابح دارفور، وليس انتهاءً بانفصال دولة الجنوب، وصولا إلى تحولات الربيع العربي، وقبلها حكم المحكمة الجنائية الدولية ضد البشير.
وفيما كان عمر البشير يَعدُ بأنه لن يترشح لولاية جديدة تحت وطأة التحولات التي فرضها الربيع العربي على المنطقة، وآخرها الاحتجاجات الأخيرة بسب رفع الدعم عن المشتقات النفطية، ها هو يدشن دكتاتورية جديدة يبدو أنها استندت إلى التعثر في مسيرة الثورات، إلى جانب النجاح في لجم الاحتجاجات الأخيرة.
من الصعب قراءة الخطوة الجديدة لعمر البشير خارج سياق إدارة الظهر لفكرة التحول الديمقراطي الحقيقي في السودان، وإصراره تبعا لذلك على أن يواصل مشواره السياسي في ظل ديمقراطية مشوّهة وفاشلة، كتلك التي كانت موجودة في عدد من الدول قبل الربيع العربي، وها هي تستعاد من جديد في مصر.
من الضرورة التذكير هنا بأن أحد أهم أسباب الخلاف السياسي الذي أفضى إلى إخراج الترابي من اللعبة، بترتيب بين البشير وعلي عثمان طه، يتمثل في ميل الترابي إلى إخراج التجربة السودانية (تجربة الإنقاذ) من مربع الانقلاب العسكري إلى ساحة التعددية الحقيقية، في ظل عدم وجود خلاف حقيقي بين القوى الفاعلة في البلاد حول المرجعية الإسلامية للدولة، وهو ما رفضه تحالف الثنائي إياه عادا أنه لن يفرط بما حققه من مكاسب ليمنح الحكومة في انتخابات حرة بالكامل لحزب الصادق المهدي.
اليوم، وبدلا من أن يبادر البشير إلى إصلاحات سياسية تؤدي إلى تهدئة الأوضاع في البلاد، ها هو يبادر إلى إقصاء أكثر الرموز تأثيرا في الحزب والدولة، ويسيطر على الوضع برمته، من دون أن يبدي استعدادا واضحا لإجراء التحول المنشود.
كانت الاحتجاجات الأخيرة أفضت إلى خروج عدد من رموز الحزب، في مقدمتهم غازي صلاح الدين، ومن ثمَّ البحث عن إطار جديد ينادي بإصلاحات حقيقية في البلاد، لكن ذلك لم يؤد إلى تغير في خطاب البشير ومن معه، بل تعاملوا باستخفاف مع تلك المطالب، وهو هو اليوم يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن ماضٍ في تأكيد سيطرته على السلطة دون اعتبار لأي أحد؛ لا للأقوياء في حزبه الحاكم، ولا لأمثالهم في الساحة السياسية المعارضة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لا يتعلق بطبيعة الدولة في ظل التوليفة الجديدة (الشابة بحسب الادعاء)، إذ أنها لن تختلف بحال عن الدكتاتورية الثنائية مع علي عثمان طه، بل يتعلق بما إذا كان البشير سيبادر بالفعل من أجل مواجهة الرفض الشعبي والتحديات المختلفة إلى إجراء إصلاحات حقيقية لا يُستبعد أن تمنحه ولاية أخرى على الأقل، أم سيواصل مشواره التقليدي، وصولا إلى تكاثف كل القوى في الساحة على الضغط من أجل تغيير شامل.
ومع اتساع دوائر المعارضة، بشقها التقليدي التاريخي (المهدية والختمية)، إلى جانب حزب الترابي (المؤتمر الشعبي)، وكذلك الحزب الجديد للمنشقين بقيادة غازي صلاح الدين (توحدهما وارد، بل سيكون مؤثرا لو تم بالفعل)، مع مدد شعبي، يمكن القول إن سلطة البشير ستبقى مهددة بانفجار شعبي لا أحد يدري متى سيحدث، مع الإشارة بأنه لن يكون للمبعدين الجدد من السلطة أي دور فيه ولا فيما بعده، وبالطبع لأنهم في المنظور الشعبي شركاء في ما يتهم به النظام منذ بداية تجربة الإنقاذ
( الدستور 16/12/2013 )